العمل الخيري في السودان واستقلالية الهوية

بقلم: الدكتور عصام يوسف – رئيس الهيئة الشعبية العالمية لدعم غزة

طرحت الظروف الاستثنائية التي عاشها المجتمع السوداني خلال تاريخه مفردة العمل الخيري ضمن عنوان رئيسي في عملية التأريخ لتفاعلات المجتمع ثقافياً واقتصادياً واجتماعياً مع خصوصية الأوضاع التي عاشها في إطار تشكله ومواجهته للتحديات المختلفة، وعلى رأسها معضلة التنمية في البلاد.

وأعاقت ظروف عديدة، سياسية وبيئية في الغالب، حركة التطور الطبيعية للدولة والمجتمع السوداني، وكان من أبرز علاماتها الحروب الأهلية في البلاد، وأشدها ضراوة حرب الجنوب التي استنزفت مقدرات السودان خلال العقود الماضية، فضلاً عن حالة عدم الاستقرار السياسي، إضافة للأوضاع الاقتصادية المتردية التي زاد من شراستها موجات الجفاف التي أدت إلى المجاعة في مواسم عدة.

وتظهر إسهامات قطاع العمل الخيري في السودان ضمن حالة فريدة ساعدت في رسم صورة ملحمية تكافلية ساهم في إنتاجها أبناء المجتمع السوداني الذي يدخل الفكر الخيري ضمن منظومته الثقافية, وموروثاته الاجتماعية، وبشكل منفتح على مؤسسات العمل الإنساني الدولية، الأمر الذي تمخض عنه بلورة حالة دعم إنساني مشتركة (محلية ودولية)، في ظل ظروف إنسانية غير اعتيادية، عاشتها البلاد، فاقت قدرة المجتمع المحلي على مواجهتها منفرداً.

ولعبت مؤسسات خيرية سودانية إلى جانب منظمات دولية دوراً مفصلياً في مكافحة الفقر والتشرد والنزوح الناجم عن الحروب الأهلية، إضافة لمكافحة “غول” المرض والجوع الناجم عن المجاعات وتردي الحالة المعيشية للملايين من أبناء السودان في مراحل سابقة، سيما في فترة الثمانينات من القرن الماضي.

ساعد هذه المؤسسات حالة تجذر العمل الخيري والتطوعي في المجتمع السوداني ضمن منظومة قيم اجتماعية أساسها ديني، مدعومة بتراث شعبي غني، تعبر عنه أغاني السودانيين وأمثالهم ومآثرهم التي تمجد مبادئ العمل الخيري، ما أسهم في إبقاء روح العمل الإنساني كمسلمات وبديهيات في نفوس أبناء الشعب السوداني.

وبذلك، يأخذ إيمان السودانيين بأهمية العمل الخيري والتطوعي سمة الديمومة، بحيث لا تزول بزوال أسباب الحاجة المادية، ما أسهم بظهور مؤسسات خيرية تشكل إطاراً مؤسسياً للعمل الخيري، وتقوم بمهام الإسناد الاجتماعي، ومواجهة الظروف الطارئة على المجتمع السوداني، وتهدف لمساعدة كافة الشرائح المتضررة من الكوارث ومستجدات الظروف.

دور اجتماعي هام

وبحسب الباحثين، دفعت هجرة أعداد كبيرة من السودانيين من الريف إلى المدن فترة السبعينيات من القرن الماضي، نتيجة ظروف الجفاف، إلى تصدي أعداد من الجمعيات الخيرية جرى تأسيسها آنذاك، لما استجد من أوضاع وظروف إنسانية صعبة، لتكون امتداداً لروح التكافل والتراحم التي تسود مجتمعات القرى، حيث انتقلت هذه الروح معهم إلى المدن تعبيراً منهم عن حاجتهم لأواصر الترابط والتعاون فيما بينهم في مواجهة واقع العزلة الجديد في المدن، وابتعادهم عن عائلاتهم.

يشير الدكتور عبد الرحيم بلال في بحث له بعنوان “العمل الطوعي في السودان” إلى “أن المنظمات الطوعية والخيرية شهدت ازدهاراً في العقدين الأخيرين في السودان، نتيجة الاستشعار بأهمية الدور الاجتماعي الذي تؤديه في ظل عدم قدرة الدولة على القيام بمسؤولياتها الاجتماعية نحو مواطنيها”.

ويضيف بأن “هذه المنظمات سعت إلى القيام بجزء هام من هذا الدور الاجتماعي خاصة تحت وطأة الفقر وانتشاره، وتقديمها خدمات ومشاريع إدرار الدخل للفقراء، ما أدى لاحقاً إلى تحول دورها من الخدمي إلى التنموي بعد فترة المجاعة والجفاف”.

وإزاء التطورات التي شهدتها البلاد خلال عقد الثمانينات من انفتاح كبير على منظمات العمل الإنساني الدولية، استطاعت مؤسسات العمل الخيري المحلية الاستفادة من الإمكانيات الكبيرة والتقنيات الحديثة التي تتمتع بها المنظمات الدولية، من خلال الاحتكاك بها، واستعانة هذه المنظمات بخبرة وتجانس هذه المؤسسات داخل مجتمعاتها المحلية لتسهيل تقديم الإغاثة والدعم لمستحقيه.

وقاد وجود المئات من المؤسسات الدولية الإغاثية على أرض السودان، وتبعية غالبيتها لدول أوروبية، وللولايات المتحدة وكندا، إلى طرح قضية تجليات “العولمة”، نتيجة الانتشار الكثيف لهذه المؤسسات، وتأثير ثقافاتها على المجتمع السوداني على المدى البعيد، ما أظهر تبايناً في الآراء حول مسألة وجودها.

ففي ذلك رأي يشير إلى مخاوف تأثير وجودها المباشر على السيادة الوطنية، من خلال ممارستها ضغوط ما على الحكومات، والتأثير في تغيير السياسات، سيما ما يتعلق منها بقضايا حقوق الإنسان، كون هذه المنظمات تتواجد على أرض السودان المنهكة بسبب الكوارث الطبيعية، والحروب، واعتبار هذه المنظمات الداعم الوحيد والقوي، في وقت تقف فيه الحكومات المتعاقبة عاجزة عن تقديم حلول واقعية وعاجلة لأزمات إنسانية فاقت قدرتها على إيجاد الحلول لها.

بينما يؤيد فريق عدم الانشغال بقضايا مناهضة العولمة، في هذه المرحلة الصعبة والدقيقة من حياة السودانيين، معتبرةً أن العولمة بمفهومها المجرد “تجاوز الثقافات بأنماطها المختلفة (اقتصادية واجتماعية وقانونية..وغيرها) للحدود الجغرافية” هو حالة كونية وليس سودانية، والانصراف بدلاً من ذلك لأهمية الاستفادة القصوى والواسعة من إمكانيات المنظمات ودولها في مساعدة السودان من أجل تجاوزه لأزماته الإنسانية بأي وسيلة، وكذا الاستفادة من التقنيات الحديثة التي تتبعها لمحاولة محاكاتها من أجل تطوير آليات عمل مؤسسات العمل الخيري والتطوعي المحلية.

هوية مستقلة

وفي إطار ترحيب المؤسسات المحلية في توسيع هوامش الاستفادة من طريقة أداء المنظمات الدولية، مع الحفاظ على روح العمل الخيري الإسلامي، والالتزام بهويته النابعة من نسيج المجتمع السوداني الأصيل، خاضت مؤسسات العمل الخيري السودانية ضمن حالة “امتزاجية” متخلقة في تنفيذ مشاريع ذات طابع تنموي بعد انتهاء فترة الجفاف والمجاعة التي اتسمت بكثافة العمل الإغاثي، ليزداد معها زخم الحالة الخيرية السودانية وتشعبها، واتخاذها أدواراً تتنوع ما بين الإغاثي والتنموي، ما استدعى وضع أطر قانونية وتشريعات للعمل الخيري السوداني، ترسم ملامحه المستقبلية وتحدد الغايات منه.

وفي سبيل ذلك جاءت الإستراتيجية القومية الشاملة عام 1992 لتشتمل على إستراتيجية العمل التطوعي والخيري، وتحدد الغايات منه، والتي قامت على أربعة محاور، أهمها: “تحقيق نهضة اجتماعية شاملة تستلهم المواطنين، وأن يكون السودان خير مجتمعات العالم تكاملاً وتعاضداً وتراحماً، إضافة لاعتماد المجتمع على نفسه في تلبية معظم احتياجاته، ومن أهم ما جاء في الموجهات أن العمل التطوعي والخيري الحقيقي عمل إنساني خالص يتوجب النأي به عن أي مقاصد أخرى“.

وللسودان تجربته الخاصة مع الوقف الإسلامي، حيث يشهد التاريخ على عراقة المشاريع الوقفية، وأهمية دورها على صعيد إسهاماته في مجالات التنمية البشرية ومكافحة الفقر والقضاء على الأمية، وإنشاء المدارس والمستشفيات والطرق والجسور ومصادر المياه الصالحة للشرب، وغيرها من المشاريع، ويؤرَّخ لأسبقية الوقف في السودان إلى زمن المملكة “الكوشية”، بحسب دراسة للدكتور عمر عبدالله حميدة، تحمل عنوان “الأوقاف في السودان تاريخها وتطورها”.

 وقد كانت المساجد في البدء نواة الوقف في السودان، فقد كانت إلى جانب قيمتها الدينية رباطاً للتجار المسلمين القادمين من الدول الإسلامية المختلفة، ليسهم فيما بعد وقف المساجد إلى نشوء وتطور المدن السودانية حوله، ولتتطور في عهود لاحقة ولتبرز أنواع من الأوقاف، كأوقاف الأراضي، وأوقاف المؤسسات الدينية، والتعليمية، وأوقاف المياه، وأوقاف المال المنقول، إلى جانب الوقف الأهلي، وغيرها من الأوقاف.

وشهدت الأوقاف السودانية عبوراً لحدود السودان، سيما منها ما استهدف الأماكن المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة، وفي الأزهر الشريف بمصر، حيث أسهمت الأوقاف في خدمة الحرمين الشريفين، وحجاج بيت الله الحرام، وزائري المسجد النبوي الشريف، والعاملين على خدمتها، إضافة لطلبة العلم، وفي الأزهر أقيمت كذلك الأوقاف الدينية التعليمية لخدمة الطلبة.

وفي الدولة السودانية الحديثة سُنت قوانين للحفاظ على الوقف ورعايته، ومن أهمها قوانين تسجيل الأراضي وتحديد ملكيتها، والذي دفع الدولة بالتالي لإقرار الحقوق الوقفية وتحديدها، ليغلب فيما بعد الطابع التنظيمي القانوني الذي سار بشكل موازٍ مع حالة تطور المدينة الحديثة، سيما في العاصمة الخرطوم.

تمسك بالثوابت الوطنية

ومع قسوة الأوضاع الاستثنائية التي عاشها السودان، من مجاعات بلغت ذروتها فترة الثمانينات، وحروب، كالتي شهدتها مناطق في جنوب البلاد على مدى عقود من الزمن، إضافة للاضطرابات لاحقاً في مناطق دارفور وكردفان والنيل الأزرق، استمر معها تصدر المنظمات الدولية لمشهد العمل الإغاثي في الداخل السوداني حقبة من الزمن، إلا أن مؤسسات العمل الخيري السوداني أصرت على التمسك بثوابتها الوطنية، وهويتها العربية، تتطور في إطار ذلك، وتراكم خبراتها بناء على تجاربها المعاشة في الميدان، لتترجم خبراتها تلك إلى برامج ومشاريع خيرية في شتى مناحي الحياة: منها الإغاثي، والتعليمي والتربوي، والدعوي، والتنموي..وغيرها من المجالات. نتطرق فيما يلي إلى تجارب بعض منها:

“منظمة الدعوة الإسلامية”، إحدى مؤسسات العمل الإنساني والخيري في السودان سلكت طريقها في عالم الريادة، في العمل الدعوي والإغاثي والتنموي، حيث تجاوزت حدود عملها السودان، لتنطلق في رحابة الأرض تنشر قيم وتعاليم الدين الإسلامي في التسامح والتعايش بين بني البشر، دون إغفال تطبيقها العملي لهذه القيم القائمة على ترسيخ مبادئ التكافل الاجتماعي بين الناس، من خلال تنفيذها للمشاريع الخيرية الداعمة للفقراء والمحتاجين، وأخرى تحرص على الدفع باتجاه خلق وعي تنموي لفائدة المجتمعات والأجيال المتعاقبة.

وللمنظمة مؤسساتها المتخصصة، “كالمؤسسة الصحية العالمية” التي تعنى بمجابهة آثار الكوارث الطبيعية والحروب الأهلية من خلال تنظيم عمليات إغاثة عاجلة، وإنشاء وإدارة مؤسسات علاجية، وتشجيع الهيئات المحلية على المشاركة في إعادة البناء، ومنها ما يختص بتدريب الدعاة كمؤسسة “تأهيل وتدريب الدعاة”، و”المؤسسة الأفريقية للتعليم” المتخصصة في تعليم اللغة العربية والتربية والإسلامية.

من جهة أخرى، يقوم “الجهاز العام للاستثمار” داخل المنظمة بإنشاء ومتابعة الاستثمارات، بينما تقوم “الجمعية الأفريقية الخيرية لرعاية الأمومة والطفولة” التي تأسست عام 1985، بكفالة الأيتام والأمهات داخل وخارج السودان، وحماية الطفولة من التشرد، وزيادة الدخل للأسر الفقيرة.

ولضمان هامش من الاستقلالية المالية قامت المنظمة بإنشاء “مؤسسة دانفويو القابضة” عام 1981 بهدف زيادة التمويل الداخلي للمنظمة، من خلال ممارستها أنشطة اقتصادية تتركز في مجالي التجارة العامة والمقاولات.

وتتوزع مشاريع المنظمة ضمن مجالات عدة: التعليمية: كإنشاء وترميم المدارس والمراكز والمعاهد، ودعم البرامج التعليمية في الدول الفقيرة. والرعاية الصحية: كتزويد المستشفيات بالمعدات واللوازم الطبية، والأدوية، وإنشاء المراكز الصحية النموذجية، وإقامة المخيمات العلاجية، وتسيير القوافل الصحية، وغيرها من الخدمات.

كما تقوم المنظمة بتنفيذ مشاريع توفير المياه الصالحة للشرب، وكفالة آلاف الأيتام في السودان ودول افريقية، ضمن الجهود التي تبذلها “الجمعية الإفريقية لرعاية الأمومة والطفولة” التابعة للمنظمة، ومشاريع أخرى كالأضاحي، وتقديم الدعم المباشر للأسر الفقيرة من مساعدات مالية وعينية، من أبرزها توزيع الطرود الغذائية على المحتاجين.

ويعكس الوعي الإغاثي والتنموي لدى المنظمة ثقافة ووعي مؤسسيها تجاه قضايا أمتهم ذات الأولوية من ناحية الدعم الإنساني، ويتجلى ذلك في حرص رائد العمل الخيري وأحد مؤسسي المنظمة، المشير عبد الرحمن سوار الذهب، الانخراط في ائتلافات خيرية من أجل دعم الشعب الفلسطيني، سيما بذله للجهود الاستثنائية لإنجاح “ائتلاف الخير” الذي ضم مؤسسات عربية وإسلامية ودولية تعمل في مجال العمل الإنساني والخيري، كنائب لرئيس الائتلاف في لبنان.

وتتقاسم “الوكالة الإسلامية للإغاثة” ثقافة “اللامركزية” في العمل الخيري مع مثيلاتها كمنظمة الدعوة الإسلامية، وذلك من خلال حرصها على تأكيد الدور الذي يؤديه مقاراها في الخرطوم وفي لندن، فضلاً عن تمتعها بعضوية العديد من المجالس والمنسقيات العالمية، علاوة على تشكلها من روابط وجمعيات خيرية في مختلف بقاع العالم، يضاف إلى ذلك تعاونها مع مختلف الأجهزة الحكومية ومنظمات المجتمع المدني، وعدد كبير من المنظمات العالمية.

وتقوم مبادئ الوكالة على أساس النهج الإسلامي، بينما تتلخص الأهداف في تجسيد هذه المبادئ على الأرض، والتي تشتمل في خطوطها العريضة على “تحقيق التكافل والتضامن والتراحم والإحسان، والعمل على إغاثة الملهوف، من خلال تقديم الخدمات الإنسانية للمستضعفين والمشردين من ضحايا الكوارث، والعمل على تنمية الموارد البشرية والاقتصادية والاجتماعية في المناطق المختلفة”، بحسب أمينها العام الأستاذ عمر عثمان محمود.

وتقدم الوكالة المشاريع النوعية للمناطق ذات الحاجة في مختلف ولايات السودان، وقد حققت من أجل الغايات الإنسانية العديد من الإنجازات خلال الأعوام الماضية، من بينها تلبية نداءات المشردين في مناطق الكوارث ككردوفان والنيل الأزرق ودارفور، وتنفيذ مشاريع النفع العام كتوزيع البذور الزراعية في كسلا والقضارف، استفادت منها آلاف الأسر.

وسعت الوكالة لتنفيذ فعاليات التدريب على المشروعات الاقتصادية، ومشاركة منظمات دولية تابعة للأمم المتحدة في هذا المجال، وفي مجالات أخرى من بينها مكافحة الإيدز في نهر النيل والنيل الأزرق ودارفور، وتنفيذ مشروعات الصحة الإنجابية، وصحة البيئة في عدد من ولايات السودان.

ويشير أمين عام الوكالة إلى منجزات مهمة كتنفيذ مشروعات محو الأمية والتثقيف الصحي، وتمليك المشروعات الصغيرة ووسائل الإنتاج بولاية جنوب كردفان، وإقامة مشروعات لصيد الأسماك في مدينة الدمازين، إضافة لتنفيذ مشاريع إغاثية كتقديم الدعم الصحي والاجتماعي والأغذية للنازحين.

التزام بقضايا الأمة

وعبّرت العديد من مؤسسات العمل الخيري السوداني عن التزامها بقضايا أمتها، وما ينطوي على ذلك من فهم واسع لأهمية انتمائها لعمقها العربي والإسلامي، حيث أبدى أبناء الشعب السوداني من خلال مشاركتهم الفاعلة في مؤسسات المجتمع المدني، والمؤسسات الأهلية، ومنها الخيرية والتطوعية، على مدى عقود مضت، وعياً كبيراً تمثل في الوقوف إلى جانب قضايا أشقائهم العرب والمسلمين، وعلى رأسها القضية الفلسطينية.

يضاف إلى ذلك وقفات أبناء السودان من خلال أطر مختلفة توحّدت في بوتقة واحدة لدعم قضايا إنسانية كمأساة حرب الإبادة التي تعرض لها الشعب البوسني، وما لحق بمسلمي أفريقيا الوسطى من استهداف وإبادة على أساس طائفي، ومحنة مسلمي الروهنجيا، حيث ظهر التلاحم الإنساني السوداني مع المظلومين والمعذبين بأبهى صوره، بعدما تداعت كافة شرائح وفعاليات ومؤسسات المجتمع السوداني، لتشمل صانعي القرار السياسي في البلاد، ومنظمات العمل الطوعي، والمؤسسات الخيرية والإنسانية، وفاعلي الخير، لتثمر الجهود الخيرة عن إطلاق الحملات الإغاثية التي خفقت فيها رايات السودان لتضيف إلى سجلها في حقل العمل الإنساني، والذي أكد على كونه أحد معالم هويتها الوطنية والقومية والإنسانية.

ترافق ذلك مع إطلاق الحملات الشعبية الداعمة للشعوب التي تعيش ظروفا إنسانية استثنائية، من أبرزها الهيئة الشعبية السودانية لنصرة الشعب الفلسطيني، التي ترأسها لسنوات المرحوم الأستاذ فتحي خليل (نقيب المحامين السابق)، إضافة لحملات أخرى كالهيئة الشعبية السودانية لنصرة البوسنة والهرسك، التي كان أبرز رموزها الدكتور الفاتح علي حسنين.

وسادت القناعة بأن السوداني والفلسطيني شركاء في المعاناة الإنسانية على مدى سنوات طويلة، ما خلق إحساساً لدى الطرفين بوحدة الجرح، إلى جانب وحدة الدم والهوية والثقافة واللغة، وغيرها، بالطريقة التي يمكن تعميمها على الشعوب العربية الأخرى، فالمعاناة هي قاسم مشترك يشعر المكتوون بها بعضهم ببعض، وإن اختلفت الأسباب التي أنتجتها سواء أكان احتلالاً بغيضاً ينهب الأرض ويجوع أبناءها الأصليين، أم فقراً ومجاعات، وحروباً تهلك الحرث والنسل، وغير ذلك.

“جمعية أنصار الخيرية” أكدت على أهمية إدراك هذه العلاقة بين الشقيقين السوداني والفلسطيني، بينما تكتمل لديها ملامح هذه الصورة من خلال “قدسية” القضية الفلسطينية، حيث عبّرت عن مواقفها المبدئية من دعم صمود الشعب الفلسطيني باستمرار تقديم الدعم الإنساني رغم ما تعيشه السودان من أحداث بدأت مطلع العام 2019 كاحتجاجات على الوضع المعيشي المتردي في البلاد، وتطورت إلى المطالبة بتغيير النظام الحاكم.

وقامت الجمعية بالتأكيد على منهجها في شهر رمضان الماضي، بتنفيذ مشروعات تهدف لتمتين الصلة مع الأيتام المكفولين من خلال توفير قيمة سلال رمضانية لأسرهم، وتوزيع الطرود الغذائية في الشهر الفضيل على الأسر الفلسطينية، والطلاب الفلسطينيين في السودان، وتنفيذ حملات دعت من خلالها لمواصلة دعم الطلبة الفلسطينيين في السودان، ولأبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، حيث المعاناة كبيرة نتيجة الحصار الصهيوني الجائر على القطاع منذ 12 عام.

وكان لجمعية “أنصار الخيرية” مواقفها المتميزة في تجهيز القوافل الإغاثية إلى قطاع غزة المحاصر، ومشاركتها الفاعلة في حملات نظمها متضامنون دوليون بهدف كسر الحصار عن القطاع، وبالإمكان الإشارة إلى القافلة التي انطلقت في العام 2013 كمثال لكبرى القوافل التي قامت الجمعية بتنظيمها ضمن قوافل “أهل السودان” كجزء من مشروع استراتيجي لدعم المحاصرين في غزة، وشارك فيها متضامنون من مختلف قطاعات الشعب السوداني، تكللت بإنشاء “جمعية الصداقة السودانية الفلسطينية”، فضلاً عن مشاركة الجمعية في قوافل دولية للتضامن مع أهالي غزة، كقوافل “أميال من الابتسامات”.

يضاف إلى ذلك مشاركة الجمعية في إطلاق عدد من القوافل الطبية إلى غزة، غالبيتها بشكل متزامن مع الحروب الغاشمة على القطاع، ففي العام 2009 انطلقت قافلة لأطباء سودانيين، محملة بوحدات الدم، التي تبرع بها أبناء الشعب السوداني، لتسري هذه الدماء العروبية الزكية من جديد في أجساد الجرحى من أبناء الشعب الفلسطيني تمدهم بالحياة لإكمال مسيرتهم النضالية.

وجسدت حملة “أغيثوا غزة” حالة تلاحم حقيقي من قبل أبناء الشعب السوداني الأصيل مع أشقائهم في غزة، حين شارك في الحملة مختلف أطياف الشعب السوداني وشرائحه، بكل طاقاتهم المهنية والشعبية، وعمت المشاركة ولايات السودان كافة.

كما انطلقت في العام 2012، بالتزامن مع الحرب الصهيونية على القطاع، قافلة طبية أخرى بمشاركة أعداد من الأطباء، حيث فاقت أعداد الراغبين بالمشاركة في القافلة العدد المقرر لها، وجرى تنظيم القافلة بتنسيق من جانب “الهلال الأحمر السوداني”، بالاشتراك مع عدد من المؤسسات الخيرية ومنظمات المجتمع المدني في البلاد.

وعند الحديث عن جهود “الهلال الأحمر السوداني”، أحد الأركان الرئيسية للعمل الإنساني المؤسسي في البلاد، لا بد من الإشارة لجهوده الكبيرة في إنقاذ حياة الجرحى من ضحايا الحرب على غزة، وبشكل خاص في حرب عام 2014 التي يُشهد لأطبائه بأنهم كانوا السباقين في الوصول إلى القطاع، وكانت مباضعهم من استهلت مداواة جرح الفلسطيني الغائر.

وساهمت مشاركة أطباء الهلال الأحمر السوداني في الحروب الثلاثة على غزة في تقليل أعداد الضحايا من الشهداء، وفي علاج العديد من الجرحى، حيث كانت الفرق الطبية تتوزع على مختلف المستشفيات في غزة بهدف سد ما أمكن من نقص، بما هو متاح من إمكانات متواضعة أمام شراسة ما تخلفه آلة الحرب الصهيونية المتطورة من قتل وتدمير.

ويقوم الهلال الأحمر السوداني بأداء دوره المؤسسي في إطار عمل مؤسسات الهلال الأحمر والصليب الأحمر الدوليين، والتي تتمحور حول إدارة الكوارث (الطبيعية منها، وأخرى من صنع الإنسان)، حيث استطاع الهلال الأحمر السوداني إبراز قدرات تفوق الإمكانيات، في مكافحته للمجاعة والتداعيات الإنسانية للحروب الداخلية.

ويعمل الهلال السوداني ضمن جهوده في مجالات العمل الإنساني على تقديم خدمات الإغاثة لمعسكرات اللاجئين والنازحين، وتنفيذ برامج التدريب في مجال الإسعافات الأولية للمتطوعين، وتنفيذ المشاريع الخيرية كتوزيع الأغذية، والمواد العينية، وحملات تطعيم الأطفال، وحملات الإصحاح ومشاريع تتعلق بحماية البيئة، إضافة لتنظيم دورات التثقيف الصحي، ودورات التوعية المجتمعية، وغيرها العديد من المشاريع.

وللهلال الأحمر السوداني مواقفه المشرّفة والأصيلة في تقديم الدعم الإنساني للأشقاء السوريين، والترحيب بهم رغم الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعيشها المواطنون السودانيون، فضلاً عن عمله الدائب في توفير الجاهزية العالية للتعامل مع أي طارئ في الإقليم يستوجب تقديم الدعم للأشقاء والجيران.

انفتاح القطاع الخيري السوداني

وتعتبر مؤسسة “صناع الحياة” بنسختها السودانية، نموذجاً لانفتاح القطاع الخيري السوداني على تجارب المؤسسات الخيرية التطوعية الناجحة، وتوطين هذه التجارب في المجتمع السوداني، ليضيف دليلاً آخر على شغف السودانيين في تطوير منظومتهم الخيرية، وتقديم مستوىً عالٍ من المنتج الخيري الذي يراعي المهنية والتطور في آن واحد.

ويعتمد مبدأ عمل “صناع الحياة” على حشد الطاقات الشبابية لتنفيذ مشروعات تنشأ كمبادرات مجتمعية، تتركز غالبيتها في إعداد جيل سليم وواعٍ للقضايا والتحديات التي تواجه مجتمعه وأمته، كمشروع “جيل المستقبل” الذي يستهدف بدرجة أولى شريحة الأيتام، ومشروع “حماة المستقبل” الذي يهتم بتوعية الشباب من مخاطر المخدرات، ومشروع “إنسان” الذي يحارب ظاهرة التسريب من المدارس، إضافة لتنفيذ مشاريع التنمية البشرية الهادفة لخلق أجيال تقوم بدورها المنوط بها في بناء المجتمع.

وللجانب الخيري والإغاثي نصيب من جهود “صناع الحياة”، فالوعي بأهمية المبادرة يقود بالضرورة إلى الإنجاز الخيري والتنموي، للوصول إلى حالة بناء شامل ومتكامل، حيث جاءت عدد من المشاريع لصناع الحياة كتعبير عن هذا النهج، من قبيل “مبادرة السلام والنور لدعم دارفور” الهادفة لحشد الطاقات من أجل إغاثة دارفور عبر تقديم الغذاء والملابس والتعليم، وتحسين الظروف الإنسانية للأهالي، ومشروع “توكل” الذي تتلخص أهدافه في محاربة البطالة من خلال المشاريع والصناعات الصغيرة، وكذلك مشروع “حقيبة رمضان” الذي يسعى لتوجيه الجهود نحو تغطية احتياجات الأسر السودانية خلال شهر رمضان الفضيل.

وتسير “منظمة تكافل الخيرية” على ذات الخطى، كمنظمة شبابية تطوعية، مدفوعة بحماسة الطلبة الساعين لدعم مجتمعهم، وتقديم يد العون للشرائح المحتاجة فيه، كالأيتام الذين يستأثرون بالعديد من مشاريع المنظمة، من برامج ترفيهية ودعم عيني ومادي، فضلاً عن مشروع “الحقيبة الرمضانية” الذي يستهدف الأسر الفقيرة، وكذلك مشروع توزيع الأضاحي، إضافة لمشاريع التوعية والتثقيف التي تنفذها المنظمة وتستهدف من خلالها الشباب الواعد في البلاد.

أما “جمعية الإحسان الخيرية” فقد استطاعت أن تقدم أنموذجاً يختزل حيوية العمل الخيري المعاصر، وذلك من خلال حرصها الدائب على شمول فئات مختلفة ضمن مشاريعها الخيرية، يساعدها في ذلك تأسيسها لشبكة علاقات خارجية، واعتمادها منهاج التشبيك بشكل واسع، ما أمكن ذلك، حيث تتمتع الجمعية بتقدير كبير من مؤسسات إقليمية لجهودها الخيرية، وإتباعها شروط الشفافية والمهنية في عملها.

وبفضل آلية عملها التي تسعى لاكتساب شروط التطوير والتحديث، ومحاولة جعل ذلك ينعكس على كمية ونوعية مشاريعها وبرامجها الخيرية، تمكنت الجمعية من تنفيذ مشاريع مختلفة استفاد منها العديد من الشرائح المجتمعية في مناطق متنوعة من السودان، اشتملت على الشقين الإغاثي والتنموي.

من بين تلك المشاريع: حفر آبار المياه، وتوزيع السلال الرمضانية وكسوة العيد، وكفالة الأيتام، وتوزيع لحوم الأضاحي، وسقيا الماء، وبناء المراكز التعليمية والمساجد، وتنفيذ مشاريع لخلق فرص عمل وإيجاد مصدر رزق للأسر الفقيرة، يضاف إلى ذلك استجابة الجمعية للظروف الإنسانية الصعبة الناتجة عن الكوارث والأحداث الطارئة، كتلبيتها النداء الإنساني العاجل في التخفيف من آثار فيضانات مدينة كسلا عام 2018، حيث عملت على إرسال القوافل الإغاثية للأهالي المنكوبين جراء الكارثة.

على مدى عقود طويلة، حافظت مؤسسات العمل الخيري السوداني على مؤشر تصاعدي لعملية تطور مستمرة شملت أنماط وآليات عملها، مستفيدة من شبكة علاقات نسجتها مع مؤسسات خيرية إقليمية، إلى جانب انفتاحها على منظمات إنسانية دولية، تمكنت من خلالها الإطلاع ومن ثم السعي لمحاكاة تقنيات حديثة في العمل الخيري والطوعي المؤسسي.

ولربما كانت الظروف التاريخية التي عاشها السودانيون من مجاعات، وحروب، واضطرابات سياسية وأمنية، ذات تأثير مزدوج، من ناحية عدم قدرة المؤسسات الخيرية المحلية التصدي وحدها للأحداث الجسام من جهة، وتعاونها مع منظمات إنسانية دولية ذات إمكانات هائلة قدمت من خارج الحدود لإغاثة الشعب السوداني، ما قادها إلى الاستفادة من قدراتها الفنية والإدارية، وفتح آفاق أوسع أمامها، انعكس بالتالي على تطويرها لآليات عملها وتوسيع رؤيتها أمام ما يمتلكه القطاع الخيري من قدرة على الإبداع والتجدد والتطور، كما دفعت هذه الظروف القاسية، فيما بعد، إلى تحفيز عمل المؤسسات الخيرية السودانية وتوجيهه نحو الالتفات لمعاناة الإنسان العربي والمسلم، وضرورة الاهتمام برفع معاناته.

وفي ذات الوقت، حافظت مؤسسات العمل الخيري الإسلامي في السودان-أمام حالة الانفتاح تلك-، على قيمها وهويتها العربية والإسلامية، وعلى شخصيتها المستقلة، يضاف إلى ذلك تمسكها بقناعاتها الراسخة تجاه قضايا الأمة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، التي عبّرت عنها باقتسامها رغيف الخبز مع الشقيق الفلسطيني، والوقوف إلى جانبه في معاناته بسبب الاحتلال الصهيوني، ودعم صموده، حيث لم تزدها ممارسات الاحتلال وانتهاكاته بحق الفلسطينيين إلا إصراراً ورسوخاً في قناعاتها بأهمية مساندتهم حتى نيل حريتهم وكرامتهم، وخلاصهم من الاحتلال.