أردوغان رئيساً لولاية ثالثة..إنجازات وتحديات أمام استكمال مشروع “تركيا الجديدة”

بقلم: الدكتور عصام يوسف – رئيس الهيئة الشعبية العالمية لدعم فلسطين 

ثمة تكثيف لقراءات مختلفة سارت بموازاة المشهد الانتخابي التركي منذ بدايته وحتى انتهائه بالفوز “التاريخي” للرئيس رجب طيب أردوغان، ربما يعزى ذلك لأسباب سياسية واقتصادية تحكم المشهد التركي والإقليمي والدولي، إضافة لما أسبغته شخصية أردوغان القيادية من تأثيرات على المشهد العام. 

فوز أردوغان لولاية حكم ثالثة على الرغم من الاستعدادات الكبيرة للمعارضة وتوحّد أحزابها الستة بشكل لم يسبق له مثيل، والحسابات الداخلية والخارجية التي عوّلت على معطيات سياسية واقتصادية تعيشها تركيا في الوقت الحاضر، يفتح الباب أمام محاولة فهم أسباب رسوخ سياسات حزب “العدالة والتنمية” خلال السنوات الماضية، فضلاً عما يتمتع به الرئيس أردوغان من شخصية “كاريزمية”، وامتلاكه لإصرار على تنفيذ برامج تواقة لنهوض الأمة التركية وازدهارها رغم تحديات داخلية وخارجية تفرض نفسها، بل وما تزال تزداد حدة مع تأكيد أردوغان -من خلال سياساته- بشكل مستمر على استقلالية القرار التركي، والسباحة أحيانا في وجه تيارات اقليمية ودولية عاتية. 

وإلى جانب توظيف المعارضة لقضايا سياسية خارجية، فقد كان التركيز الاكبر على المسألة الاقتصادية، سيما ما يتعلق منها بالتضخم وارتفاع الأسعار، إلا أنها لقيت انقساماً، كون حكم حزب “العدالة والتنمية” الذي تجاوز العقدين، يعد الفترة الأولى التي شهدت فيها تركيا نمواً اقتصادياً واسعاً على مستوى مشاريع البنى التحتية العملاقة من مستشفيات وجامعات ومطارات وطرق وشبكات سكك الحديد وقطارات الأنفاق. 

وتبرز -إلى جانب إنجازات حزب العدالة والتنمية- ذهنية القائد السياسي الفذة في القدرة على إنجاز مشروع التنمية المجتمعية في الداخل، وإكساب الدولة مكانة إقليمية ودولية مؤثرة ومحورية في كافة المستويات. 

ويمكن للتجربة التركية في عهد الرئيس رجب طيب أردوغان أن تكون أنموذجاً يمكن الخوض في بعض جوانبه، لتبيان حجم وشكل التغير الذي طرأ على المجتمع مع تقلد أردوغان لمناصب قيادية، حتى وصل إلى سدة الحكم في البلاد، ليعيد معها صياغة وتكوين شكل وهوية الدولة، وأدائها السياسي الإقليمي والدولي. 

فالرئيس أردوغان يعد خياراً شعبياً، تم اختياره كرئيس من قبل شعبه، للمرة الأولى، عن طريق الاقتراع المباشر، في أغسطس 2014، بعد أن تدرج في المناصب القيادية كرئيس للوزراء، وقبلها عمدة لمدينة اسطنبول، بعد أن كان رئيساً لحزب العدالة والتنمية الذي يمتلك غالبية مقاعد البرلمان التركي. 

وكانت بدايات الشاب الفقير الذي صقلته الحياة بعد تحمله لمسؤولية مساعدة أسرته في تأمين مصاريف دراسته، حيث امتهن بيع “البطيخ والسميط” في مراحله الدراسية الأولى، لتترك فيه تجربة الطفولة سمات الصلابة والإصرار على تحقيق الأهداف والطموحات. 

وعزّز أردوغان هذه الخصال بامتلاك الوعي السياسي والاجتماعي الذي أهّله لخوض معترك العمل السياسي، عن طريق انضمامه لحزب “الخلاص الوطني” بقيادة نجم الدين أربكان، أواخر السبعينيات من القرن الماضي. 

قاده بعد ذلك وعيه السياسي إلى النظر بموضوعية تجاه الظروف المرحلية، حيث عاد للنشاط السياسي من خلال انخراطه في حزب “الرفاه”، وذلك بعد سنوات قليلة من انقلاب عام 1980 الذي كان من نتائجه إلغاء الأحزاب السياسية، حيث ترشح من جانب حزبه عام 1994 لمنصب عمدة اسطنبول، الذي فاز فيه بفضل ما يتمتع به من حركية فائقة، وقدرة للتواصل مع الجمهور، فضلاً عن برنامج الحزب السياسي الذي يلبي تطلعات شعبه، وإمكانيات الحزب التنظيمية الكبيرة. 

واستطاع عبر فهمه لمقتضيات المرحلة السياسية أن يلعب بما يملك من أوراق، دون التنازل عن الثوابت المبدئية، فكان تأسيسه مع رفاقه لحزب العدالة والتنمية بعد حظر حزب الفضيلة الذي انتمى إليه، ليقدم واجهة سياسية جديدة للتنظيم السياسي الجديد، ولكن بذات المضامين الفكرية، التي تمسك بها الفضيلة وأربكان، بعدما اصطدم التنظيم المحظور بالمؤسسة العسكرية التي تعتبر نفسها الضامن للنظام الجمهوري العلماني منذ حكم كمال أتاتورك. 

اتبع أردوغان بعد وصوله سدة الحكم سياسة الانفتاح على دول الجوار، والعمل على معالجة القضايا التاريخية الشائكة، كقضية الأكراد، والخلاف مع اليونان، كما عمل على مد الجسور مع أوروبا ودول الاتحاد السوفييتي السابق، والدول العربية والإسلامية. 

وللسياسة الداخلية نجاحاتها التي لا تحصى، فقد قاد أردوغان ما يشبه الثورة التنموية التي غيرت واقع الاقتصاد التركي، فالشخصية التي تتحلى بالنزاهة والشرف وتغليب مصلحة الوطن والمواطن، لم يكن من الصعب لديها تبني صورة الاقتصاد التكاملي، الذي يعمل على تحقيق القفزة النوعية للوصول إلى الاقتصاد المتنوع الذي ينعم أهله بالرفاه والحياة الكريمة.  

فالأرقام في عهده تتحدث عن نفسها، حين تشير إلى بلد خاضع- قبل تولي حزب العدالة والتنمية للحكم- لقروض صندوق النقد الدولي الذي أدى بدوره لارتفاع حجم المديونية الخارجية، وارتفاع العجز في الميزانية، وإغلاق الآلاف من الشركات التجارية، وانخفاض استثماراتها، وبالتالي ارتفاع معدلات البطالة. 

 إلا أن البرنامج الاقتصادي والسياسي الواعد لحزب العدالة والتنمية، والأداء النزيه والرفيع لرجالاته قلبت المعطيات، وأقلعت بالبلاد من شاطئ البطالة وارتفاع نسب الفقر، والشلل الاستثماري، والكساد إلى رحابة الانتعاش والتقدم الاقتصادي وتحسين مستوى المعيشة للمواطن التركي بسرعة الصاروخ. 

حيث تقول الأرقام بأن دخل الفرد السنوي ارتفع من 3500 دولار عام 2002، إلى 17468 ألف دولار حسب إحصاءات برنامج الاقتصاد التركي لعام 2013، ووصلت صادرات الدولة إلى 36 مليار دولار أمريكي، واستمرت في الارتفاع إلى أن وصلت 140 مليار دولار عام 2013، وها هي تحقق ارتفاعات قياسية منذ بدء العام 2023، العام الذي تحتفل به تركيا بالذكرى المئوية لقيام الجمهورية التركية. 

ولرجالات من طراز أردوغان، متجذرين في إنسانيتهم، ويحملون الرؤية الواضحة، والمبادئ التي لا تقبل التأويل المزدوج والالتباس، كانت القدرة على رسم خارطة طريق تسير عليها الدولة في سياستها الخارجية بشكل لا يقبل الضبابية، وبثبات على المبادئ الإنسانية، منقطع النظير، رغم التحديات الجسام في المنطقة والإقليم. 

فالتقدم خطوات واسعة إلى الأمام في مناصرته لقضية الشعب الفلسطيني على الرغم من المصالح الاقتصادية والسياسية التي وضع أسسها أسلافه مع دولة الاحتلال، إضافة لغيرها من التحولات في السياسية الخارجية، كان يحمل في طياته ضرباً من المغامرة في دولة لم تألف كثيراً الانعطافات الحادة في سياساتها خاصة فيما يتعلق بقضايا الإقليم. 

فقد امتلك أردوغان الشجاعة في اتخاذ القرارات المصيرية في العلاقة مع دولة الاحتلال، بعدما قطع العلاقات الدبلوماسية معها، إضافة لتجميد كافة القنوات مع الدولة العبرية، رداً على انتهاكاتها بحق الشعب الفلسطيني في غزة، ومعهم المتضامنين الأتراك والعرب، والدوليين الذين حاولوا أن يطلقوا صرخة تعبر عن رفضهم للحصار الجائر على قطاع غزة، الذي أنهك إنسانية المجتمع الدولي، حين فشلت في إسعافه في رفع الظلم عن الأطفال والنساء والشيوخ، وكافة المدنيين المحاصرين في غزة. 

ولم يكن ما حدث مع سفينة “مافي مرمرة” عقب القرصنة الإسرائيلية التي جرت ضد المتضامنين الأتراك والدوليين المتواجدين على متن السفينة في عرض البحر المتوسط، في مايو 2010، ونتج عنها استشهاد وجرح العشرات منهم، الدافع الوحيد لاتخاذ الخطوات التركية الحازمة تجاه دولة الاحتلال، بل إن الموقف المبدئي المتمثل بنصرة القضايا العادلة، وعلى رأسها قضية الشعب الفلسطيني هي أحد ثوابت ومحددات السياسة التركية في عهد أردوغان. 

فقد كان الموقف المبدئي التركي حاضراً تجاه قضايا إقليمية أخرى، كالموقف السياسي والإنساني في دعم الشعب السوري خلال سنوات الثورة، واستقباله لمئات الآلاف من لاجئيه، إضافة لدعمه طموحات وتطلعات باقي شعوب المنطقة في الحصول على الحريات السياسية، وتقرير مصيرها بنفسها. 

ويمضي أردوغان بشجاعته المعهودة، في اتخاذه الدور الفاعل والقيادي تجاه القضايا المصيرية والعادلة، حيث تميّز الأداء التركي بشكل واضح في قضية القدس مؤخراً، بعد القرار المشؤوم للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والقاضي بالاعتراف بالمدينة المقدسة عاصمة لإسرائيل، واعتزامه نقل السفارة الأمريكية إليها. 

فتنديد الرئيس التركي بالخطوة الأمريكية وتصدره المشهد السياسي عقب دعوته لقمة إسلامية رداً على القرار الأمريكي، وإعلانه بشكل واضح الرفض القاطع للقرار، مهما كانت تبعات الموقف، يعبر عن سياسة المبادئ الثابتة التي تتبناها القيادة التركية، وعمق الرؤية تجاه تداعيات القرار الذي يمعن في الجريمة التاريخية في اغتصاب وسلب حقوق الشعب الفلسطيني، إضافة لحقوق ما يزيد عن المليار ونصف المليار مسلم في القدس، يضاف إلى ذلك تداعياته الأمنية والسياسية التي أوجزها بقوله في أن “اتخاذ مثل هذا القرار يضع العالم وخصوصا المنطقة في دائرة نار”، وبأن “القدس خط أحمر بالنسبة للمسلمين”، بحسب ما صرح به أردوغان لوسائل الإعلام بعد صدور القرار الأمريكي. 

وللقبول الشعبي للرئيس التركي علاماته الواضحة، فقد تمكن أردوغان من خلال شخصيته الشعبية القريبة من الجماهير، في الوقت الذي يحرص فيه على تلمس هموم أبناء شعبه، والتعرف عن كثب على مشكلاتهم وهواجسهم، في أن يكون نصيراً لمحدودي الدخل من الأتراك، بل وللفقراء في مختلف أنحاء العالم، حيث تتجلى أبرز هذه العلامات في الالتفاف الشعبي حول القيادة التركية إبان المحاولة الانقلابية الفاشلة في يوليو 2016، ونزول المواطنين إلى الشارع استجابة لنداء الشرعية السياسية، حتى بدا مشهد تصديهم للدبابات والمدرعات بصدورهم العارية كلوحة ملحمية ستبقى عالقة في ذاكرة كل تركي وإنسان حر، ليقدموا معها حالة فريدة من التلاحم بين الشعب والقيادة، استطاع الشعب خلالها أن يحمي رصيد المكتسبات والمنجزات التي حققتها تركيا الحديثة تحت حكم أردوغان وحزب العدالة والتنمية. 

استطاع أردوغان من خلال “الكاريزما” التي يمتلكها ترسيخ صورة القائد الشعبي، الذي يرفع ضمنياً من خلال أدائه وسياساته شعار “من الشعب وإليه”، فقد تمكن من خلال وضعه خارطة طريق لتركيا الجديدة تسير فيها إلى التقدم والازدهار داخلياً، والتأثير والفاعلية الإيجابية خارجياً، أن يكسب ثقة شعبه، وأن يضع مفاهيم جديدة للعقيدة السياسية التركية، في سبيل بعثها من جديد كأمة لها تاريخها وتراثها الذي عاد ليحفز تفاعله مع محيطه الشرقي دون التنازل عن العمق الغربي في أوروبا، وامتداد تفاعله الحضاري هناك. 

أمام حصيلة الانجازات تلك، لم ينس أردوغان قضايا أمته الإسلامية، التي تمثّل له ولشعبه البعد الثقافي والحضاري، فقد توجّه لتوظيف شبكة علاقاته الإقليمية والدولية لمناصرة القضايا العادلة في المنطقة، كقضية الشعب الفلسطيني، ليرسخ في ذهنية المواطن التركي إضافة للعربي والمسلم كبطل قومي وإسلامي وأممي يرفض مهادنة الظلم في أي مكان، بعدما أعاد رسم صورة الأبطال التقليديين الذين يبلون حسن البلاء في ساحات الوغى، إلى صورة الأبطال الذي يخوضون معاركهم السياسية بثبات وحزم، ويقدمون مثالاً للصمود من خلال التمسك بالمبادئ وبمنظومة الأخلاقيات والقيم الإنسانية. 

فيما كان الحرص كبيراً لدى أردوغان على التمسك بالجذور، وعدم التفريط بالهوية التاريخية للأمة التركية التي يعتز بانتمائها للثقافة الإسلامية التي تجسدت في أبهى صورها خلال فترة الخلافة العثمانية، حينما كانت تصر على حمل راية “الخلافة”، وافتخارها بخدمة المقدسات الإسلامية الذي تعتبره شرفاً وواجباً أضاف لرصيد الأمة التركية الكثير من مواقف العزة والشرف. 

وينسحب ذلك على سياسات القائد التركي الحالي الذي يؤكد قولاً وسلوكاً على التزامه المستمر بحماية المقدسات في مكة المكرمة والمدينة المنورة، وفي القدس المحتلة، سواءً بسواء، ليقدم أردوغان من خلال سياسته تلك اعتبارات مهمة تضاف لشخصية القائد الحقيقي الذي يتحلى بالوفاء للعقيدة، وللهوية والأصول، وعدم القطيعة مع التاريخ. 

يتسلم أردوغان مقاليد الحكم للمرة الثالثة في العام 2023، بما يتزامن مع احتفالات بلاده بالذكرى المئوية لقيام الجمهورية التركية، بعدما أحدث تحولات كبيرة استطاع من خلالها نقل تركيا الجديدة من دولة حملت إلى زمن بعد إرث “رجل أوروبا المريض”، لدولة معافاة وقديرة ومزدهرة، ومن دولة فقيرة إل دولة تنعم بالانتعاش الاقتصادي، ومن دولة منغلقة نسبياً على نفسها إلى دولة المحور والتأثير في السياسات الدولية، مطلقاً وعوده بمئوية جديدة تغيّر مجرى التاريخ، وتدشّن مائة عام من الريادة والسيادة والاستقلالية، نحو استكمال بناء تركيا الجديدة رغم ما يعتري ذلك من تحديات داخلية وخارجية.