ينحني ظهر الطفلة أمل المغربي (15عامًا)، لبعض الوقت مع تركيز، ودقة متناهية، كي تتمكن من تركيب قطعة سيراميك صغيرة لا تتخطى 1سم، على طريقة إكمال لوحة فنية كبيرة من الفسيفساء.
ومنذ أشهر التحقت أمل مع عدد من زميلاتها، بمشروع تعلم فن الفسيفساء، داخل جمعية الثقافة والفكر الحر بمحافظة خان يونس جنوب قطاع غزة، ويعكفنّ بإشراف مدرب فن تشكيلي على إنجاز سبع لوحات لا تقل الواحدة عن ثلاثة أمتار.
تلك اللوحات السبعة تحمل بُعدًا وطنيًا وحياتيًا في مضامينها وتمتزج ما بين طيور فلسطينية شهيرة وشخصيا كبار سن، ونساء فلسطينيات يرتدين الثوب التراثي وغيرها.
وتقول أمل لمراسل “صفا”: “لدي موهبة الرسم، وتوجهت لتعلم رسم الشخصيات (بورتريه)؛ هنا بدأت تعلم فن الفسيفساء، فوجدته مُتعبًا وشاقًا ويحتاج جهدًا كبيرًا لكنه ممتع، وشكل وسيشكل إضافة نوعية في حياتي؛ كونه من الفنون النادرة حاليًا، ويُحيي فنًا قديمًا حديثًا، ذو قيمة تراثية أثرية قديمة”.
وتضيف “واجهتني صعوبات كثيرة، منها تكسر قطع الكراميكا والسيراميك التي تحتاج جهدًا ودقة حتى تخرج متناسبة الطول والعرض، وعملية تركيبها في اللوحة بمادة الغراء اللاصقة؛ فأحيانًا نضطر لفكها وتركيبها من جديد، لخطأ في التركيب أو عدم تنساق الألوان؛ لكن شعوري بأنني أحيي فنًا مميزًا قديمًا، وتوقعي بنتائج مبهرة، يجعلني أتحمل كل التعب وأتحدى الصعوبات”.
فن الفسيفساء يعود لأيام السومريين ثم الرومان، فيما شهد العصر البيزنطي تطوراً كبيراً في صناعة الفسيفساء حيث دخل في صناعته الزجاج والمعادن واستخدم بشكل كبير في القرن الثالث والرابع الميلادي باللون الأبيض والأسود؛ فبرعوا بتصوير حياة البحر والأسماك والحيوانات.
وتطور الفن لدى العرب الذين صنعوا أشكالاً هندسية منها؛ وأطلقوا عليها “الفسيفساء الإسلامية” كما بالجامع الأموي بدمشق وقبة الصخرة في القدس؛ ومر تطور الفسيفساء بمراحل عديدة حتى بلغ قمته في العصر الإسلامي التي تعطينا خلفية واضحة عن تجليات الحضارة الإسلامية في عصورها المزدهرة.
زميلة أمل سميحة النفار (15 عاما) لم تكن بعيدة عنها عندما أمسكت بلوحة ورقية لمرأة تلحمية، وبدأت تقتبس منها وتطبق على الجزء المخصص لها في اللوحة، بإشراف مدربهم.
ولسان حال سميحة لا يختلف عن نظيرتها أمل، فهي الأخرى لم تمارس من قبل فن الفسيفساء، فقط كل ما تمتلكه معلومات عنه؛ لكنها تقول، إنها “تشعر بالمتعة لتعلمه رغم صعوبته، وتخطط أن يكون تخصصًا لها مُستقبلاً”.
و”الفسيفساء” فن وحرفة صناعة المكعبات الصغيرة واستعمالها في زخرفة وتزيين الفراغات الأرضية والجدارية، عن طريق تثبيتها بالبلاط فوق الأسطح الناعمة وتشكيل التصاميم المتنوعة ذات الألوان المختلفة، ويمكن استخدام مواد متنوعة مثل الحجارة والمعادن والزجاج والأصداف وغيرها.
ويوضح الفنان التشكيلي محمد أبو لحية الذي يشرف على تدريب الأطفال داخل مركز “بناة الغد” التابع لجمعية الثقافة أن فن الفسيفساء القديم يعود للحياة من جديد بشكل مُعاصر بتجسيد ومحاكاة التراث الثقافي الفلسطيني؛ مؤكدًا حاجة غزة لهذا الفن لأهميته وقيمته التاريخية والمكانية، أسوةً بالضفة والقدس والعالم؛ فبالكاد يكون معدومًا بغزة.
ويشير أبو لحية في حديثه لـ”صفا” إلى أن طرق تعليم الأطفال تتم عبر سكتشات ورقية لكل لوحة، ثم رسمها داخل لوحة كبيرة الحجم، كخطوط رئيسة، ومن ثم تثبيت القطع بمادة الغراء اللاصقة.
ويلفت إلى أنهم بصدد تجهيز سبع لوحات، بطول لا يقل عن ثلاثة أمتار، تحتوي على: “المرأة الفلسطينية بالثوب كذلك الرجل كبير السن، والمرأة التلحمية، وطائر السوسن الفلسطيني، وشجرة الزيتون، وساحل البحر، وشعار مؤسسته”؛ لافتًا إلى إنجاز ثلاثة والبقية ينتهي العمل بها مطلع العام المقبل.
وينوه أبو لحية إلى أن اللوحة الواحدة تحتوي على قرابة 16 ألف قطعة سيراميك وخزف وبورسلان، يتم جمعها بدقة من بقايا المحال التي تبيعها في القطاع، بناءً على الحجم واللون الذي يحتاجونه في اللوحة الفنية.
ويُعلل سبب اختيارهم فن الفسيفساء، كونه فنًا قديمًا يصمد طويلاً ويتحمل عوامل التعرية، وكلما تقدم به الزمن يزداد جماله؛ لافتًا إلى أن اللوحات ستوضع في واجهة المؤسسة لتكن قبلة الزوار من الخارج والداخل.
المصدر: صفا
الرابط المختصر https://insanonline.net/?p=142377