هكذا أُحرق المسجد الأقصى قبل 54 عامًا

ما أن أشرقت شمس صباح يوم الخميس الموافق 21 آب/أغسطس 1969، حتى كان المسجد الأقصى المبارك على موعد مع حدث مؤلم وقاس في تاريخ الأمة العربية والإسلامية.

ففي الساعة السادسة وعشرون دقيقة، تسلل يهودي متطرف أسترالي الجنسية يدعى مايكل دينيس إلى المسجد الأقصى، وأشعل النيران عمدًا في جناحه الشرقي، ما أدى إلى حرق وتدمير منبر صلاح الدين الأيوبي، ومعظم خشب السقف الجنوبي منه، حتى أوشكت أن تصل النار إلى قبته.

وما هي إلا دقائق حتى شاهد المقدسيون لهيب النار ينبعث من المسجد الأقصى وفي سماء المدينة المحتلة، وهب الجميع لإطفاء الحريق وعلت مكبرات الصوت بالمناداة لنجدة المسجد، مع تصاعد الدخان من قبة المصلى القبلي.

تفاصيل الحريق

هرع المقدسيون رجالًا ونساءً وأطفالًا وكبار السن، إلى المسجد وهم يصرخون “احترق الأقصى.. احترق الأقصى”، إلا أن سلطات الاحتلال أغلقت جميع أبوابه، وخاصة باب الأسباط الذي يعد الطريق الوحيد المؤدي لساحاته، ولإدخال سيارة الإطفاء.

حاولت شرطة الاحتلال منع الشبان الذين هبوا لإطفاء الحريق، إلا أن الكثير منهم تمكن من الدخول إلى المسجد عنوةً، وتسلقوا سلمًا حديديًا منصوبًا على الجدار القبلي من الناحية الجنوبية الشرقية، وبنوا سلسلة بشرية كبيرة وبدأوا بمناولة بعضهم البعض الماء لإطفاء الحريق، الذي استمر لعدة ساعات متواصلة.

كان الناس يصطفون في صفوف طويلة ينقلون التراب في أوان يدوية، ويجلبون المياه على أكتافهم من البيوت المجاورة للمسجد الأقصى من أجل المساعدة بإطفاء الحريق، وسط أجواء من الحزن والألم والصراخ على ما حلّ بمسجدهم المبارك.

في الساعة العاشرة صباحًا، حاولت سيارات الإطفاء التي جاءت من بلديات الخليل، ورام الله وبيت لحم بالضفة الغربية المحتلة الوصول إلى مدينة القدس، لكن سلطات الاحتلال عرقلت وصولها لبعض الوقت، ما أدى لإشعال النيران في منبر صلاح الدين.

وبينما عرقلت شرطة الاحتلال دخول سيارات الإطفاء وقطعت المياه عن محيط المسجد الأقصى، نجح المقدسيون في إخماد الحريق، الذي طال أجزاءً كبيرة من المسجد القبلي، ودمر إرثًا إسلاميًا عظيمًا، وهو المنبر الذي أحضره القائد الناصر صلاح الدين الأيوبي عندما حرر القدس من أيدي الصليبين عام 1187.

وامتدت النيران إلى محراب زكريا ومسجد عمر ومقام الأربعين المجاور للمحراب، وطالت ثلاثة أروقة من أصل سبعة أروقة ممتدة من الجنوب إلى الشمال، وعمودان رئيسيان وقبة خشبية و74 نافذة خشبية وجميع السجاد العجمي، وغيرها.

وبالإضافة إلى تضرر أجزاء من القبة الخشبية الداخلية المزخرفة والجدران الجنوبية، فقد تحطمت 48 نافذة من نوافذ المسجد المصنوعة من الجبص والزجاج الملون، واحترق كثير من الزخارف والآيات القرآنية.

وبلغت المساحة المحترقة من المسجد أكثر من ثلث مساحته الإجمالية (ما يزيد عن 1500 متر مربع من أصل 4400 متر مربع)، وأحدثت النيران ضررًا كبيرًا في بناء المسجد وأعمدته وأقواسه وزخرفته القديمة.

ولولا يقظة المرابطين في المسجد الأقصى بأن أخلوا جميع السجاد المفروش بأرضيته لكانت الكارثة أكبر، والتهمت النيران باقي أنحاء المسجد.

مشهد مؤلم

ذلك المشهد بدا مؤلمًا وحزينًا جدًا، فلم تقم صلاة الجمعة في اليوم التالي، حرصًا على سلامة المصلين، بل تم وضع ساتر من الطوب لمنعهم من الوصول إلى تلك المنطقة.

وحينها كانت الصلوات تقام خلف منطقة الطوب، وبقي الأمر على هذا الحال لفترة من الوقت، حتى إتمام عملية التنظيف والشروع في الترميم.

زعمت “إسرائيل” حينها أن الحريق كان بفعل تماس كهربائي، وبعد أن أثبت المهندسون العرب أنه تم بفعل فاعل، زعمت أن شابًا أستراليًا اسمه دينيس مايكل روهان هو المسؤول عن الحريق وأنها ستقدمه للمحاكمة، ولم يمض وقت طويل حتى ادعت أن هذا الشاب “معتوه” ثم أطلقت سراحه، وجرى ترحيله إلى أستراليا.

وأثار الحريق استنكارًا دوليًا، واجتمع مجلس الأمن الدولي وأصدر قراره رقم 271 لسنة 1969 بأغلبية 11 صوتًا وامتناع أربع دول عن التصويت من بينها الولايات المتحدة الأميركية، الذي أدان فيه “إسرائيل”، ودعاها إلى إلغاء جميع التدابير التي من شأنها تغيير وضع القدس.

وعمت حالة من الغضب العارم العالم الإسلامي، وخرجت المظاهرات في كل مكان، واجتمع قادة الدول العربية والإسلامية في الرباط يوم 25 سبتمبر/أيلول 1969 وقرروا إنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي التي ضمت في حينها 30 دولة عربية وإسلامية، وأنشأت صندوق القدس عام 1976.

وبعد عام من حريق المصلى القبلي، بدأت أعمال الترميم فيه بتشكيل لجنة إعمار الأقصى، ووضع حاجز من الطوب يفصل ربع المصلى القبلي المحروق عن باقي الأروقة التي لم تتأذَّ.

ووضع بدل منبر نور الدين زنكي منبر حديدي، واستمرت أعمال الترميم حتى عام 1986، فأزيل الطوب واستؤنفت الصلاة في الجزء الجنوبي من المسجد، وبقي المنبر الحديدي حتى عام 2006، ريثما يُصنع منبر على شاكلة الذي حرق، حتى أعدت الأردن منبرًا مشابه له وُضِع مكانه في الأقصى.

ولم يتبق من المنبر التاريخي سوى قطع معدودة، يُحتفظ بها داخل المتحف الإسلامي بالمسجد.