لكنهم لا يعرفون الفلسطيني !

مخططات انتقامية وأوضاع صعبة في غزة.. لكنهم لا يعرفون الفلسطيني!
د. عصام يوسف
رئيس الهيئة الشعبية العالمية لدعم غزة

بعد عام ونصف العام من الحرب على قطاع غزة، يعيش السكان وضعًا معيشيًا وإنسانيًا كارثيًا، في ظل عمليات قتل ونزوح وتجويع لا تتوقف، بعد استئناف إسرائيل الحرب عقب توقفها لـ40 يومًا، (وهو زمن المرحلة الأولى لصفقة تبادل الأسرى بين الفصائل الفلسطينية والاحتلال)، والتي كان من المفترض أن تنتقل في نهايتها للمرحلة الثانية بإخراج باقي أسرى الاحتلال، وانتهاء الحرب قبل أن تتنصل حكومة الاحتلال الإسرائيلي من الاتفاق.

تعد الفترة الحالية هي الأصعب على سكان غزة منذ بداية الحرب في أكتوبر/ تشرين الأول 2023 وفق ما يؤكده مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، وتؤكده الأوضاع الميدانية.

منذ 2 مارس/ آذار الماضي، تواصل سلطات الاحتلال إغلاق المعابر، ومنع دخول المساعدات الغذائية والإغاثية والطبية والبضائع إلى غزة، ما تسبب بتدهور كبير في الأوضاع الإنسانية والمعيشية لأكثر من 2 مليون فلسطيني في القطاع.

فهذه أطول مدة يُمنع خلالها تدفق الإمدادات الإنسانية إلى القطاع منذ بدء الحرب وفق ما تؤكد وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “أونروا”، والوضع الإنساني يتّجه نحو الأسوأ بالنظر للمعطيات التالية:

حوالي 400 ألف شخص في القطاع نزحوا مؤخرًا منذ استئناف الحرب.
تسجيل حالات مرضية أكثر بسبب نقص الأدوية.
نقص الوقود يحد من القدرة على تشغيل جميع آبار المياه وإزالة كافة النفايات الصلبة ما يؤدي إلى تفشي المزيد من الأمراض.

فما يجري في القطاع ليس أزمة عابرة، بل جريمة تجويع منظمة ترتقي إلى جرائم الحرب، حسب ما يقول المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، الذي أكد أن الاحتلال يمنع دخول أي شاحنات إغاثة أو وقود إلى قطاع غزة، في ظل تكدُّس آلاف الشاحنات المحمّلة بالمساعدات عند المعابر منذ أسابيع طويلة دون السماح بوصولها إلى مستحقّيها.

هو عقاب وقتل جماعي بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ولا يبدو أن الحال سيكون بالأفضل في المرحلة المقبلة، خاصة بالنظر لتصريح وزير المالية الإسرائيلي المتطرف بتسلئيل سموتريتش الذي أكد فيه استخدام التجويع سلاحًا ضد الفلسطينيين، وقال: “لن يدخل غزة حتى حبة قمح واحدة”.

هو ليس تصريحًا عابرًا أو مجرد تهديد، بل يُعبر عن سياسة حكومة متطرفة لا تنظر للشعب الفلسطيني سوى أنه شعب يستحق الموت والإبادة، ودومًا كانت تصريحات هؤلاء المتطرفين هي الواقع الذي يحدث في غزة، وتُنفذ حرفيًا رغم ما تحمله من جرائم وإبادة ومخالفة للقوانين الدولية.

ومع ذلك تزداد عمليات القتل التي أدت إلى استشهاد نحو ألفين منذ استئناف الحرب، غالبيتهم نساء وأطفال، وأكثر من 50 ألفًا ما قبل التهدئة، ترافق ذلك مع عمليات نزوح جماعي وتوسعة السيطرة العسكرية من قبل جيش الاحتلال على مناطق عديدة من بينها كامل مدينة رفح وحي الشجاعية وطرد سكانها لمناطق أخرى.

هي ليست عمليات ضغط على المفاوض الفلسطيني فحسب – وإن كانت تحمل بعض التصريحات هذا التوجه- لكن الأمر أبعد بكثير:

فالهدف قتل أكبر عدد من الفلسطينيين، وخاصة من النخب والكفاءات.
تدمير أكبر عدد من المستشفيات والمراكز الصحية (قصف مستشفى المعمداني نموذجًا) وإخراجها عن الخدمة.
تدمير أكبر قدر من الأحياء والشوارع والمربعات السكنية.
ترسيخ فكرة التهجير والنزوح عند الفلسطينيين كخيار ثابت لا بديل عنه وترك الأرض.
تعقيد متطلبات الحياة الكريمة وعدم ترك خيار للبقاء من خلال تدمير مرافق الحياة والمنازل والمدارس وغيرها.
السيطرة الأمنية وتوسيع نفوذ الاحتلال في المناطق الحدودية للقطاع بل ووصولها للعمق حيث عشرات آلاف السكان.
الفلسطيني سيواجه كل التحديات ولن يتخلى عن أرضه وبلده مهما زادت العقبات وتفاقمت. ومهما كانت المخططات سوداوية، فالعقل الفلسطيني لا يقبل بغير فلسطين أرضًا

هذه المعطيات الصعبة على الأرض تدلل أن المستقبل صعب جدًا بالنسبة لسكان غزة بل للفلسطينيين بشكل عام، فالوضع في الضفة الغربية ليس بأفضل حال، ويبدو أن مخططات الاحتلال تتوسع وتزيد تدريجيًا في ظل الصمت العربي والإسلامي والدولي، والدعم الأميركي المُطلق.

لكن هل سيستسلم الفلسطينيون بفصائلهم ومكوناتهم، وهل غزة باتت قضية مُنتهية بالنسبة لإسرائيل وستحقق فيها ما تريد؟.. الواقع على الأرض يوحي بذلك، لكن العقل والإرادة الفلسطينية- لمن لا يعرف الشعب الفلسطيني- يختلفان كليًا.

في إحدى المقابلات التلفزيونية التي شاهدتها مؤخرًا، لسيدة فلسطينية أصيب زوجها وعدد من أطفالها بداية الحرب وأجبرها جيش الاحتلال على النزوح من مستشفى الشفاء مع عائلتها لجنوب القطاع، عادت بعد اتفاق وقف إطلاق النار فلم تجد بيتًا ولا حيًا ولا جيرانًا، دمرت إسرائيل الحي بالكامل في منطقة الشجاعية فوق رؤوس ساكنيه من جيرانها وأصحابها وعائلاتهم، وتعيش حاليًا في خيمة تفتقد لكل شيء، بعد أن كانت في شقة سكنية لا ينقصها شيء وتعيش حياة كريمة.

زوجها وأبناؤها مصابون، لكنها تتحدث بكل ثقة أن إيمانها مُطلق بأنها ستخرج من خيمتها لتزور القدس مُحررة، وأن غزة لن تكون يومًا في يد الاحتلال، وأن شرط تسليم سلاح المقاومة يجب ألا ينفذ، فإن وضع العدو شروطًا فلتضع المقاومة شروطها، وسنبقى هنا.. وسيرفع ابني علم فلسطين هنا.. تختم مقابلتها وقد ارتفع صوتها وزادت قوته وجرأته.

هذا الحديث العفوي في تلك المقابلة من سيدة تعيش المعاناة واقعًا كل لحظة، ولا يبدو حديثها من موقف المرتاح أو من يعيش في عالم آخر، يُوصل الرسالة للعالم أجمع بما تعجز عشرات المقالات والكتابات عن إيصاله، فالفلسطيني سيواجه كل ذلك ولن يتخلى عن أرضه وبلده مهما زادت التحديات وتفاقمت، ومهما كانت المخططات سوداوية، فالعقل الفلسطيني لا يقبل بغير فلسطين أرضًا.

قد يرى البعض في ذلك حديثًا عاطفيًا، لكنه أبدًا لا يعرف الفلسطيني الذي انتفض في عام 1987، وكان سلاحه حجارة مقابل سلاح وجيبات ومصفحات عسكرية، وقاتل من بين الأزقة والمخيمات رغم محاولات الاحتلال آنذاك تمييع القضية الفلسطينية وإخماد صوت الثورة بالانفتاح الاقتصادي، وتشغيل العمال في الداخل الفلسطيني المحتل.

لا يعرف الفلسطيني الذي انتفض عام 2000 رفضًا لزيارة شارون للمسجد الأقصى، وأجبرت عمليات المقاومة بسلاحها المتواضع، رئيس وزراء الاحتلال شارون على الانسحاب من غزة، وهو الذي كان يراها “تل أبيب” ويرفض الخروج منها.

لا يعرف الفلسطيني الذي صمد عامًا ونصفًا وما يزال في حرب إبادة لا تقوى على مواجهتها دول، وكانت ستسلم وترفع الراية البيضاء من الأسبوع الأول.