“من كان عنده فضل زاد فليعُد به على من لا زاد له”.. كانت هذه دعوة انطلقت من
المبعوث رحمة للعالمين، النبي صلى الله عليه وسلم، وروى الحديث الإمام أبو داود
بسند صحيح.
وكان له صلى الله عليه وسلم -فيما نحسب- ثلاثة أهداف من وراء
هذه الدعوة، وهي:
1- سد الحاجات الضرورية لأفراد الأمة، وعلى رأسها الطعام.
2- الحفاظ على طابع التراحم والعطاء والتماسك الاقتصادي والاجتماعي لأبناء أمته.
3- تقديم قاعدة راسخة للنمو الاقتصادي في الدولة الإسلامية.
هذه الأهداف بعضها في حاجة للتوضيح.. فالهدف الأول واضح بلا مراء، فهناك تفاوت
اقتصادي في كل مكان من المعمورة، يلقي ظلاله، بل وتستقر قواعده في بلاد الإسلام،
فمن يكون للفقير المسلم الذي لا يجد قوت يومه؟ لقد جعل الله ورسوله كفالة هذا
الفقير من الواجبات التي يُثاب عنها المسلم أكبر الثواب، فهذه الصدقة التي تقع في
يد الله تعالى -كما أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم- جعلت أمَّ المؤمنين عائشة
رضي الله عنها لا تتصدَّق فقط، بل إنها حرصت على أن تطيِّب صدقتها قبل إعطائها
للفقير، لعلمها أنها تقع في يد الله، وجعلت ابن عمر يتصدق بأكثر المؤن محبة إلى
قلبه، اعتبارًا لقوله تعالي: {لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا
تُحِبُّونَ}، وما أدراك أخي ما درجة البر التي وعد الله بها عباده!!
والهدف الثاني يمثل ذلك البذل الراقي، والعطاء الجميل الذي يتضافر معه طيب
الخاطر، ورضا النفس، والطمع في رضا الله تعالى، تلك العوامل التي هي أسس بناء ذلك
المجتمع المتماسك الذي وصفه لنا رب العزة سبحانه بقوله: (بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ)..
مجتمع كهذا لا يمكن أن يبيع كرامته من أجل لقمة العيش، ولا يرضى أبدًا بالذل
والاستعمار من أجل سد جوعه، إنه جهد الأفراد الذي يصنع في مجمله صورة رائعة لمجتمع
ودولة لا ذِكْر فيها لمجاعة داخلية، أو استذلال خارجي مقابل المعونات، أو ما أشبه
ذلك مما كثرت شواهده.
أما عن الهدف الثالث فنلاحظ أنَّ دين الإسلام لم يَنحُ منحى النظريات الاشتراكية
في هدم نظام الطبقات، بل قَبِل التفاوت بوصفه المدخل الطبيعي لقبول العمل اليدوي
الذي لا بد منه للإنتاج، مع الحفاظ على الطبقات الثرية التي توفر المشروعات التي
تنتج فرص العمل.
لكن لم يكن معنى هذا أن الإسلام يوافق على صورة التفاوت الطبقي التي تقوم على
استغلال الأثرياء للفقراء، فجعل للفقراء حقًّا في مال الأغنياء ومتوسطي الحال،
يتمثل حده الأدنى في فريضة الزكاة التي لا يصير المسلم مسلمًا حقًّا إلا بأدائها،
تاركًا البحث عن العتق من النار وعذاب الله يوم القيامة لمن يبذل المزيد من الزاد
والمال لمن لا زاد له.
لماذا الطعام؟ ألا يكفي المال؟
من يطالع السنة النبوية يجد النبي الكريم صلى الله عليه وسلم قد اهتم اهتمامًا
كبيرًا بقضية التصدق بالطعام، جنبًا إلى جنب مع التصدق بالمال؛ مما أثار تساؤلا
مهما: لماذا يحرص النبي على التصدق بالطعام بالذات؟ فنجده يقول -ويشير في أكثر من
حديث-: “أيها الناس.. أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام؛
تدخلوا الجنة بسلام”، ذلك الحديث الذي خصَّ التصدق بالطعام كأحد أسباب دخول الجنة،
إضافة لما قدمنا به مقالنا هذا من حديثه صلى الله عليه وسلم: “من كان لديه فضل زاد
فليعُد به على من لا زاد له”، وثمة أحاديث أخرى كثيرة تحث المسلم على هذا المجال،
ليس هذا مقام حصرها، ويكفينا أن الأصل في زكاة الفطر أن تخرج زادًا لا مالا، وأن
صدقة يوم الحج الأكبر ثلث الأضحية لا ثمنها، إضافة لتحديد كفارة اليمين أو الظهار
في الإطعام في المرتبة الأولى.
وهنا نعيد السؤال: لماذا الاهتمام بإطعام الطعام؟
1- قد تكون من أولويات الفقير توجيه ما يحصل عليه من مال لمتطلبات يراها مهمة
ويؤثر أن يبيت جائعًا، وهنا حرص الإسلام على سد هذه الحاجة الملحة، فاتحًا الباب
أمام سبل التكافل الأخرى لسد حاجاتها المالية.
2- قد يكون رب العائلة الفقيرة ممن يجور على أهل بيته باختصاص المال لنفسه بخلا،
أو موجهًا إياه في غير مُستحق أو مُحَرَّم، وهنا نجد أن الأفضل -حماية له ولأسرته-
أن يُعطَى طعامًا لا مالا.
3- إن بذل الطعام أكرم للفقير من بذل المال؛ حيث قد يرى الفقير في إعطاء المال
له إهانة، وهذا الصنف أشار إليه رب العزة بقوله: {يَحْسَبُهُمُ الجَاهِلُ
أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ}.
4- يعد الطعام من الحاجات الأساسية للإنسان التي لا يمكن العيش بدونها، ولا يصبر
عليها، ومن ثم فعندما يفقدها سيسعى للحصول عليها بصور تمس كرامته، مثل السرقة، وذل
السؤال، وكلا الأمرين ترفَّع الشرع بالفقير عنه، خصوصًا عندما كفل له اهتمام أمة
الإسلام به.
نحو برنامج عملي للتطبيق
قرأنا من قبل أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل هذا الأمر الهيِّن (إطعام الطعام)
إحدى الطرق المؤدية لدخول الجنة، ليس هذا وحسب بل جعلها سبيل دخول الجنة بسلام
أيضًا، وهل يكره مسلمٌ أن يدخل الجنة بسلام من دون مناقشة حساب أو سابقة عذاب؟!
وقد يبدو الأمر من السهولة بمكان بحيث يتساءل أخي القارئ: وهل يحتاج تطبيق الأمر
إلى برنامج عملي يساعدنا على تنفيذه؟ والحق أن هناك عدة اعتبارات جعلتنا نطرح الأمر
بهذه الزاوية، وهي:
1- في الدول الإسلامية الميسورة اقتصاديًّا صار إطعام الطعام من الأمور التي تعد
عيبًا في حق من يقبلها، بالرغم من أن هذه المجتمعات لا تخلو من فقراء.
2- في الدول العربية والإسلامية الفقيرة انتشرت ظاهرة التسول، وأضحى العرف أن
التصدق إنما يقتصر على هؤلاء المتسولين، وينسى أهل هذه الدول جيرانهم المتعففين.
3- هناك عدد كبير من سنن الإسلام وشرائعه الحسنة قد تلاشى أو تغيب عن الممارسة،
ومن هذه القيم الغالية “إطعام الطعام”؛ وهو ما يجعلنا نحتاج إلى العودة بها للمجتمع
في إطار الدعوة الإسلامية.
4- أنه بالنظر للحال في الدول التي تعاني من أزمات اقتصادية نجد أن أجهزة الدولة
المعنية بتقديم الإعانات لا تطيق حصر الحالات التي تحتاج فعلا.. إما تقصيرًا من هذه
الأجهزة، أو لعدم وجود موارد، أو لتعفف المتعففين عن السؤال؛ وهو ما يجعلنا نفكر في
طرح برنامج عملي لتنفيذه.
برنامج فردي
1- يمكن للفرد المسلم أن يقوم بهذا المشروع منفردًا، ويفضل أن يتعرف على جار
مسلم يثق فيه ليساعده.
2- يتم تحديد الأشخاص الذين يحتاجون للمساعدة من خلال الزيارات العائلية غير
المتكلفة بين الجيران بصورة لا يتضح من خلالها غرض الزيارة للحفاظ على المشاعر.
3- يفضل أن تكون وحدة العمل هي المنزل الواحد متعدد الطوابق؛ بحيث يقوم راعي
المشروع ومن يساعده بالاشتراك في نشر هذه السُّنة الحسنة.
4- يمكن للقائم على هذا البرنامج أن يبدأ مع جيرانه في المنزل بالتنسيق مع من
يساعده، من خلال اتفاقهما على إشعار المحتاج، بأنهم اعتادوا تقديم الأطعمة لبعضهم
البعض في إطار الود المتبادل.
5- يفضل أن يكون الطعام مطهوًّا وليس غير ذلك، على الأقل في المرحلة الأولى من
المشروع.
6- يراعى في هذا المشروع أن يكون عدد المكفولين يتناسب مع قدرة القائم بالمشروع،
وبما يتوافق مع قدرات أهل بيته ومن يعاونه على الإنجاز.
7- على القائم بالمشروع أن يحاول إقناع نظرائه من الميسورين أن يكفل كل منهم
بيتًا أو بيتين.
8- يمكن أن تكون وحدة تنفيذ المشروع هي الشارع الذي يقطن فيه صاحب الفكرة، إن لم
يكن في منزله مَن يستحقون هذه الكفالة، ويتم التوسع بحسب القدرة.
9- على كل قائم بالمشروع أن يتوجه إلى الله بالدعاء بأمرين: أن يتقبل منه البذل
الذي يبذله، وأن يفتح له قلوب المكفولين فيتقبلوا منه هذا الجهد.
برنامج جماعي
لا يخفى على إخواننا القراء أن البرنامج الفردي قد يواجه عقبات كثيرة، منها:
1- أنه يصلح للأحياء السكنية المختلطة طبقيًّا، أي التي يسكن فيها ميسورو الحال
إلى جوار المعسرين، ومن ثم لا يصلح للأحياء التي ينفصل فيها هؤلاء عن أولئك.
2- يصلح هذا البرنامج الفردي في المنازل التي يتجاور فيها الميسورون والمعسرون؛
فطابع المدن الحديثة يؤدي لضعف اتصال المرء بجيرانه، فما لم يكن الجار قريبًا فإنه
من العسير مزاولة هذا المشروع بصورة فردية.
هذان الاعتباران يجعلان من الضروري تنفيذ هذا المشروع في إطار جماعي، والإطار
الجماعي الذي نقصده يتمثل في لجان البر المنتشرة في المساجد أو التي يمكن إنشاؤها
في المساجد، وتوسيع نطاق عملها لتضم عدة مشروعات، من بينها مشروع فضل الزاد، وخطوات
المشروع كما يلي:
1- الاتصال بلجان الزكاة أو لجان البر المنتشرة في المساجد المحيطة، وما لم تكن
موجودة يمكن إنشاؤها.
2- يُفضَّل أن تركز كل لجنة مسجد على الشارع الذي يتواجد به المسجد لغرض تحقيق
الكفاية، ومتى تحققت الكفاية يمكن توسيع نطاق النشاط.
3- من المهم بناء قاعدة بيانات مصغرة حول الأُسر التي تحتاج التوجه إليها بهذا
النشاط، ويقوم بجمع هذه المعلومات جيران المحتاجين أنفسهم وليس غرباء عنهم، وتتضمن
قاعدة البيانات هذه ما يلي:
– دخل الأسرة من خلال عائلها فقط؛ حيث ينبغي عدم اعتبار عمالة الأطفال.
– النفقات الضرورية لهذه الأسرة، ومدى تغطيتها لكل الاحتياجات الأساسية: السكن
والملبس، والتعليم… إلخ، وما يتبقى لتغطية احتياجات الطعام.
– تحديد عدد أفراد الأسرة لتحديد حجم الغذاء الذي تحتاجه.
4- ينبغي بناء قاعدة بيانات ثانية مصغرة، حول مَن يمكنهم
القيام بكفالة هذه الأسر في إطار هذا المشروع، على أن تكون البيانات المجموعة
متمثلة في حجم ما يمكن أن يخصصه كل كفيل للإنفاق في هذا المشروع.
5- ينبغي التأكيد على أن تكون قاعدة البيانات المذكورة بالغة السرية، ولا يطلع
عليها إلا الأمين كاتم السر.
6- يمكن أن تكون “الأزواد” المقدمة في هذا المشروع غير مطهوة بسبب اتساع حجم
النشاط.
7- يجب أن يتوخى القائمون على هذا المشروع تحقيق كفاية الأسر المكفولة عينيًّا؛
فلا يتوسعوا في عدد الأسر المكفولة إلا بعد تحقيق الكفاية للأسر الموجودة بالفعل؛
فكميات الغذاء المقدمة يجب أن تكون كافية لإعالة هذه الأسر تمامًا.
8- السعي لزيادة عدد الكفلاء من خلال الاهتمام بالدعوة إلى الإسلام، والتركيز
على التطبيقات الاجتماعية للإسلام، التي تتجاوز العبادات إلى إقامة المجتمع المسلم
الفاضل.
9- يُفضَّل إعداد مستخلص بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية وتفسيراتها،
وتعليمها للقائمين على هذا المشروع؛ ليتمكنوا من إدارة المواقف التي تدور بينهم
وبين الكفلاء أو المكفولين، سواء في حالة تعفف الأخيرين أو طمعهم… إلخ.
10- يجب الفصل بين هذا المشروع وغيره من المشروعات الدعوية أو السياسية التي قد
ينخرط فيها أي من القائمين على أمور المسجد الذي ينفذ هذا المشروع؛ فهذا المشروع
ينبغي ألا يكون مشروطًا أو مرتبطًا بأي توجه سياسي يستغل المشروع في جمع المؤيدين
والمناصرين أو كسب أصوات انتخابية.
11- يجب ألا ينسى أصحاب هذا المشروع التوجه إلى الله بالدعاء بالقبول والتيسير؛
فالدعاء يضبط النفس، ويصحح الأداء، ويجلب البركة والتوفيق.
وأخيرًا فإن هذا المشروع مرن قابل للتمدد لتغطية احتياجات المسلم الفقير في
الآونة المعاصرة من تعليم إلى ملبس… إلخ، خاصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد
وسع لنا نطاق التعاطي مع هذا المشروع، حين قال في أول الحديث: “من كان عنده فضل
ظهر، فليعد به على من لا ظهر له”.
وبعد..
فإن التغيرات الاقتصادية التي يشهدها العالم سوف يكون لها ضحايا كثيرون؛ وهو ما
يزيد من أهمية هذه المشروعات والحاجة إليها؛ والله الموفق.
الرابط المختصر https://insanonline.net/?p=68434