نظام الوقف.. ومنظومة التطوع
تستند فكرة “التطوع” بعمل شيء ما إلى رؤية معرفية، أساسها حرية الإرادة والقدرة على التصرف دون إكراه؛ لتحقيق مصلحة أو منفعة ذات صفة جماعية وليست فردية فقط، وعلى أساس هذه الرؤية فإن صيغ العمل التطوعي تتعدد بتعدد الإرادات الفردية، وتنضبط بضوابط الشرائع والقوانين، وكذلك بالمصالح الاجتماعية والمنافع العمومية التي يراها أهل كل مجتمع في زمن معين يعيشون فيه.
و”الوقف” من أبرز صيغ العمل التطوعي الذي حض عليه الإسلام ومارسه المسلمون على مر العصور وتعاقُب الدهور، وجوهر الوقف هو فكرة الصدقة الجارية، كما جاء في الحديث النبوي: “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له”. وفكرة الوقف بهذا المعنى تنتمي إلى منظومة العمل التطوعي وفقًا لتعاليم الإسلام الحنيف، وقد جاء الأمر بالوقف على سبيل الترغيب والندب إلى فضائل الأخلاق والأعمال، وليس على سبيل الإلزام أو الأمر الجبري الذي لا يملك المخاطب به إلا الانصياع له.
إن التطوع هو ما تبرع به الإنسان من ذات نفسه، والمتطوع هو الذي يفعل الشيء الإيجابي تبرعًا دون انتظار مقابل مادي، بل ابتغاء مرضاة الله ونيل ثوابه، والوقف كما قلنا هو -في جوهره- نوع من التبرعات، وإن كان يتميز بأنه دائم لا ينقطع طبقًا لمفهوم “الصدقة الجارية”.
العمل التطوعي في الرؤية الإسلامية
وبالرغم من أهمية منظومة العمل التطوعي وثراء مكوناتها، فإنها لم تحظَ حتى الآن بما تستحقه من البحث والتأصيل، إلى الدرجة التي تبدو فيها هذه المكونات -من الأفكار والمبادرات- مفككة، وكأنها لا روابط بينها.
والحقيقة أن من خصائص “الرؤية الإسلامية” أنها تقدم مجموعات متكاملة من “الأفكار – القيم – والفضائل” التي تتعدد في صيغها وتختلف في وسائل التعبير عنها، وتتباين في مجالات عملها، غير أن كل مجموعة منها تظل في مجملها منتمية إلى منظومة واحدة، تحقق هدفًا أو أكثر من أهداف الفرد أو المجتمع أو هما معًا.
وينطبق هذا الكلام على “منظومة العمل التطوعي”، حيث نجد عديدًا من الأفكار والقيم والمبادئ والأخلاقيات التي نص عليها الإسلام منها الصدقة، والبر، والإحسان، والتطوع، والنذر،… إلخ، وهي تشمل في مجموعها منظومة متكاملة من الجهود والأعمال التي تشترك في كونها “تطوعية”، ونابعة من الإرادة الحرة للفرد وبمبادرة ذاتية منه، ودون إكراه من أي سلطة اجتماعية أو سياسية.
ولسنا بصدد الاستعراض التفصيلي لمفردات “منظومة التطوع”، كما أننا لسنا بصدد تحليل مكونات كل مفردة والوقوف على علاقتها بغيرها من مفردات “المنظومة الأساسية”، فأمور كهذه تحتاج إلى بحوث مستفيضة، ولكننا نكتفي هنا بإثارة الموضوع، وبتقديم جملة من الأفكار الأساسية التي نأمل أن تفتح الطريق أمام مزيد من البحث والاجتهاد في التأصيل الفكري لمنظومة “العمل التطوعي” بوجه عام، وللعلاقة بين مفهوم التطوع وبين نظام الوقف بوجه خاص.
العقيدة رافد وأساس
أولاً: إن كافة صور العمل التطوعي في المنظور الإسلامي مرتبطة بعقيدة الإيمان بالله تعالى، وأن هذا الارتباط هو الذي يوفر لها القوة المعنوية والطاقة الروحية اللازمة لدفع الفرد للقيام بها طائعًا مختارًا، ولا تستبعد الرؤية الإسلامية أي عمل مهما صغر حجمه أو قلت قيمته، ابتداء من “إماطة الأذى عن الطريق” التي عدها الرسول صلى الله عليه وسلم أدنى شُعَب الإيمان، وصولاً إلى التضحية بالنفس في سبيل الله تعالى دفاعًا عن الدين والوطن.
ومعنى ذلك أن ثمّة إطارًا واسعًا لمنظومة “التطوع” و”العطاء” الاختياري الذي يحض عليه الإسلام ويزكيه، ومعنى ذلك أيضًا أن “التطوع” -بمشتملاته ومكوناته- ليس أمرًا ثانويًّا أو هامشيًّا في الحياة الاجتماعية للإنسان (فردًا كان أو مجتمعًا)، وإنما هو مكوِّن أصيل من مكوناتها، وأداة -في الوقت نفسه- من أدوات تحقيق غايتها وتلبية احتياجاتها المادية والمعنوية.
الأخلاق ضابطة وحاكمة
ثانيًا: إن منظومة العمل التطوعي تستند إلى بناء متماسك من القيم والأخلاقيات التي تعلي من شأن المشاركة في الشئون العامة، وتحض على المبادرة بفعل الخير، وتجعل من الشعور بالمسئولية تجاه الآخرين فضيلة من الفضائل التي يسعى إليها الفرد ويقدرها المجتمع، وتحقق منفعتهما معًا في آنٍ واحد.
وإلى جانب البناء القيمي الأخلاقي للعمل التطوعي في الرؤية الإسلامية، هناك تراث غني من الأبنية المؤسسية والأطر التنظيمية التي تم تطويرها عبر الممارسات الاجتماعية في الحقب التاريخية المتتالية، وعبر تلك الممارسات انتقلت فكرة الخير إلى حيز الوجود الفعلي في صورة أعمال نافعة، كما أن تلك الممارسات والمؤسسات قد أسهمت بفاعلية في تقريب المسافة بين “القول والعمل”، أو بين النظرية والتطبيق، وكانت مؤسسات وأبنية الوقف على تنوعها وتعدد وظائفها في مقدمة تلك المؤسسات والأبنية.
موازنة بين الروح والمادة
ثالثًا: إن منظومة العمل التطوعي بكل مكوناتها في المنظور الإسلامي، تنتهي إلى قيمة اجتماعية – سياسية أساسية هي قيمة التكافل أو التضامن الاجتماعي من ناحية، وتنتمي إلى قيمة روحية أعلى، وهي قيمة التقوى والعمل الصالح من ناحية أخرى. وكل من الانتهاء والانتماء هما أمران يجمعان بين طرفي معادلة الروح والمادة في مزيج منسجم مع فطرة الإنسان تمام الانسجام، وهذا المزيج لا يتوافر لأي من المنظومات التطوعية التي تستند إلى الفلسفات الوضعية. وتتجلى الأهمية الكبرى لهذا الانتماء المزدوج في كل مكونات منظومة الأعمال التطوعية التي حض عليها الإسلام، وفي مقدمتها “الوقف” الذي هو في أصل وضعه الشرعي عبارة عن صدقة جارية، المراد منها استدامة الثواب والقرب من الله تعالى عن طريق الإنفاق في وجوه الخير والبر التي تشمل المنافع العامة على اختلاف أنواعها وتعدد مجالاتها.
وبعبارة أخرى يمكننا القول إن الوقف في جوهره عبارة عن عبادة مالية، يتقرب بها الفرد إلى الله تعالى بالتنازل طائعًا مختارًا عن أمواله، أو عن بعضها، وإعادتها إلى المالك الحقيقي، وذلك بجعلها على حكم ملك الله تعالى، وهو -أي الوقف- في مظهره عبارة عن عمل تطوعي من الطراز الأول، كان ذا إسهام بارز في تأسيس الحضارة الإسلامية وفي تطوير عمرانها على طول تاريخها.
المؤسسية أفضل
رابعًا: إن عبرة التاريخ وخبرة الممارسة تشيران إلى أن الفكرة التطوعية تكون أكثر فاعلية عندما تتبلور في شكل مؤسسة ذات قدرة على البقاء والتجدد والابتكار، على نحو يمكنها من الإسهام في تلبية الاحتياجات الاجتماعية المتجددة والمتغيرة من فترة إلى أخرى.
وفي التاريخ الاجتماعي لمنظومة العمل التطوعي الإسلامي نجد أن أهم المبادئ التي تشكلت منها هذه المنظومة -مثل: البر والصدقة والإحسان، والخير… إلخ- قد بلورتها الممارسات الاجتماعية والتجارب التاريخية في أطر مؤسسية تمتعت بدرجة عالية من الانتظام والقدرة على التكيف مع متغيرات الحياة، وتمتعت أيضًا بدرجة عالية من الاستقلالية الإدارية والمالية والوظيفية، وذلك ببعدها النسبي عن سيطرة الأجهزة البيروقراطية للدولة.
صحيح أنه لم يحدث أن تحولت كل مفردات منظومة التطوع إلى أنشطة مؤسسية منتظمة، وبقي عديد من أعمال التطوع طي الكتمان، بعيدًا عن الأنظار؛ طلبًا لمزيد من القرب من الله، وتحاشيًا لأية شبهة من الرياء أو السمعة؛ عملاً بأدب الصدقة، أو أدب التطوع، الذي أشار إليه الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: “لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه”، غير أن الفكرة المحورية في المنظومة التطوعية وهي فكرة الصدقة الجارية قد تحولت إلى “نظام الوقف”، الذي غدا بناء مؤسسيًّا متكاملاً من النواحي القانونية أو التشريعية (الفقهية) والإدارية، والاقتصادية، والمحاسبية. وقد أفضت التطورات التي لحقت به إلى أن أصبح بمثابة القاعدة المادية والمرجعية المعنوية للعمل التطوعي في معظم أشكاله الخدمية والإنتاجية والإنمائية بصفة عامة.
حاجتنا لتعميق المعرفة
خامسًا: إن ثمّة حاجة مُلِحَّة لتعميق المعرفة العلمية بمنظومة العمل التطوعي من المنظور الإسلامي، مع السعي في الوقت نفسه لتجديد الوعي بأهمية هذه المنظومة وبمكوناتها المتنوعة، وبخاصة في ظل موجة الاهتمام العالمي المتزايد بالقطاع التطوعي وبمؤسساته وهيئاته المختلفة.
ومن المفيد في سعينا للمعرفة العلمية بهذا القطاع من المنظور الإسلامي أن ننفتح على التجارب الحديثة والمعاصرة التي خاضتها الأمم والشعوب الأخرى، وأن نستفيد من إنجازاتها ونتعلم من إيجابياتها، فالحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أحق الناس بها.
وكلما كان اطلاعنا على أفكار الآخرين وإنجازاتهم وتجاربهم اطلاعًا واعيًا ونقديًّا كان أكثر جدوى وأعظم نفعًا في دعم الجهود المبذولة من أجل البناء الذاتي والتأصيل العلمي المستند إلى التراث الفكري لأمتنا، والمرتبط بخبرتها التاريخية والاجتماعية الطويلة في هذا المجال، وفي غيره من الميادين الأخرى.
هناك الكثير من الإنجازات المؤسسية والتنظيمية التي يمكن أخذها من التجربة الغربية في العمل التطوعي، ونحن ندعو إلى ذلك ونحبذه، ولكن شريطة أن يكون على بصيرة وبمنهجية نقدية تميز النافع من الضار، وتأخذ المناسب وتترك غير المناسب لمجتمعاتنا وحاجاتها وخصوصياتها.
إن من الخطأ تصوير الغرب على أنه كتلة واحدة صماء معادية للعمل الخيري أو التطوعي وللإسلام والمسلمين بشكل عام، فالحقيقة أن هناك قوى وجماعات متعصبة ومعادية في الغرب كما هو معروف، وهناك قوى وجماعات أخرى محايدة ولا تنشغل بمثل هذه الأمور، وجماعات وقوى ثالثة متعاطفة مع العمل الخيري وقضايا الإنسان والبيئة والتنمية ومحاربة الاستغلال والظلم ومناهضة غول العولمة الذي يسحق المستضعفين في كل مكان، وهذه القوى والجماعات لا تعادي العمل الخيري الإسلامي ولا الإسلام والمسلمين، بل إنها كثيرًا ما تلتقي في أهدافها ومواقفها ومقاصدها مع أهداف وغايات العمل الخيري الإسلامي ومؤسساته وهيئاته المختلفة؛ وبخاصة فيما يتعلق بقضايا مواجهة الفقر، والقضاء على المرض، ومكافحة الأمية والجهل، والتصدي للعدوان على البيئة، والمطالبة باحترام حقوق الإنسان. وفي رأيي أن علينا الانتباه إلى مثل هذه القوى والجماعات، ومدّ جسور التعاون معها بما يخدم قضايا الإنسان بوصفه إنسانًا؛ لأن هذا من صميم الرسالة الإسلامية التي لا تتوجه فقط إلى المؤمنين بها وإنما إلى الناس أجمعين بعدلها وبرها وبرحمتها، قال تعالى: “وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِين”.
مهمات عاجلة
وحتى تكون هناك علاقة صحية بين العمل التطوعي الإسلامي والعمل التطوعي في غير البلاد الإسلامية عامة، وفي الغرب بصفة خاصة.. فثمة ثلاث مهمات يجب القيام بها في الوقت الراهن، ويمكن إيجازها في الآتي:
1 – إن أول ما يجب عمله هو القيام بحملات إعلامية مكثفة للتعريف بالعمل الخيري الإسلامي وأهدافه، وفضح زيف الادعاءات والافتراءات التي يتهمه خصومه بها، على أن تستند هذه الحملات أساسًا على الحقائق والمعلومات الموثقة والحجج الدامغة والشهادات الصادقة؛ وذلك حتى نزيل الآثار السلبية والتشوهات التي تركتها الحملات المضادة في أذهان الجماهير والنخب، ليس فقط في بلداننا العربية والإسلامية، وإنما أيضًا في المجتمعات الغربية ذاتها، وهذا يتطلب -بلا شك- جهودًا جبارة من أجل توصيل رسالتنا الإعلامية باللغة التي يفهمها الجمهور المستهدف، ومن خلال القنوات التي تتمتع بالكفاءة وتحظى بالمصداقية.
2 – معالجة ما قد يكون هناك من أخطاء أو علل يعاني منها العمل الخيري الإسلامي، وقد تتسبب في الوقت نفسه في خلق هذا القلق الذي نتحدث عنه، ولا شك أن هناك بعض السلبيات وأوجه القصور التي يعاني منها العمل الخيري، وليس من الحصافة التغاضي عنها أو قبولها، أو السكوت عليها تحت أية حجة من الحجج، حتى وإن كان الذي نبهنا إليها طرفًا معاديًا، أو جهة مفضوحة النوايا، فالاعتراف بالحق والالتزام به خير من التمادي في الباطل أو الإبقاء عليه. علينا مثلاً أن ندقق في أعمالنا، ونضبط ميزانياتنا، وننظم إداراتنا، ونصدر تقاريرنا بصفة دورية… إلخ، حتى لا نترك ثغرة ينفذ منها الراغبون في تقويض أركان العمل الخيري وحرمان مجتمعاتنا منه.
3 – الحوار المباشر مع الهيئات والمؤسسات الغربية المعنية بشئون العمل الخيري، وبخاصة تلك التي تسهم في إثارة الشكوك حوله؛ بشرط أن تكون تلك الجهات لديها الرغبة في إجراء مثل هذا الحوار، وذلك لإزالة ما قد يكون لديها من شبهات أو معلومات مغلوطة.
وفي اعتقادي أن لدينا في مؤسسات ومنظمات العمل الخيري الإسلامي الكثير الذي نقدمه، ليس فقط لتصحيح الصورة المشوهة، وإنما للإسهام في بناء رؤية عالمية للعمل الخيري تلتقي عليها كافة الأطراف والفاعليات التي تحمل هموم الإنسانية بشكل عام، والفئات والجماعات المحرومة منها بشكل خاص. وفي هذا الصدد فإن العبء الأكبر يقع على رجالات العمل الخيري الإسلامي والمؤسسات التي يقودونها، وعلى مراكز البحوث والدراسات العلمية التي توفر لها الإسناد الفكري والعلمي، وتؤصل للرؤية الإسلامية المتميزة في هذا الصدد، وتبين مدى حاجة العالم إليها، بدلاً من البقاء في حالة الانكفاء على الذات، وبدلاً من الاكتفاء بالبقاء في مواقع الدفاع، والانطلاق للإسهام في ملء الفراغ الكبير الذي تعاني منه البشرية على مستوى القيم والمبادئ والأخلاقيات التي حضت عليها تعاليم الإسلام السمحة، ودعت كل الناس إلى الالتزام بها والاستفادة منها.
الرابط المختصر https://insanonline.net/?p=68435