الحكمة في عناية القرآن الكريم بمصارف الزكاة

من الأمور التي تلفت نظر البعض عن التعمق في فقه الزكاة وأحكامها ومصارفها، وبالتحديد في آية الزكاة، أن الزكاة في القرآن الكريم غير مفصلة في حين يبدو التفصيل واضحا في مصارفها فما السر في ذلك؟.
وفي تفسير ذلك، يقول العلامة الدكتور يوسف القرضاوي: إن تحديد المصارف في القرآن الكريم بهذا الوضوح، يحسم هذا الموضوع بالقدر الذي لا يسمح لأحد أن يتدخل في هذه المصارف، ويضع الأطر العامة للحفاظ على حقوق أصحاب هذه المصارف، وليلفت النظر إلى أن الموضوع ليس في جمع الزكاة فقط، لكن في الحرص على مصارفها الشرعية وهو انتقال من المهم إلى الأهم. كذلك حتى لا يميل الميزان، وتلعب الأهواء، ويأخذ المال من لا يستحقه، ويحرم منه من يستحقه.
وفيما يلي النص الكامل لفتوى الدكتور القرضاوي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
لقد جاء أمر الزكاة في القرآن مجملا كالصلاة بل أكثر إجمالا، فلم تبين آيات الكتاب الأموال التي تجب فيها الزكاة، ولا مقادير الواجب منها، ولا شروطها من مثل حولان الحول وملك النصاب المحدد وإعفاء ما دون النصاب.
وجاءت السنة التشريعية، القولية والعملية، فبينت المجمل من الزكاة كما بينته في الصلاة، ونقل ذلك الإثبات الثقات، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جيلا بعد جيل.
لهذا كان من اللازم هنا، وجوب الإيمان بالسنة النبوية، كمصدر تشريعي للإسلام وتعاليمه، وأحكامه، بعد القرآن الكريم: مصدر مبين له وشارح ومفصل ومخصص، وصدق الله العظيم: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل: 44).
روى أبو داود: أن رجلا قال للصحابي الجليل عمران بن حصين: يا أبا نجيد، إنكم لتحدثوننا بأحاديث ما نجد لها أصلا في القرآن! فغضب عمران وقال للرجل: أوجدتم: في كل أربعين درهمًا درهم، ومن كل كذا وكذا شاة شاة، ومن كل كذا وكذا بعيرًا كذا؟ أوجدتم هذا في القرآن؟ قال: لا، قال: فممن أخذتم هذا؟ أخذتموه عنا وأخذناه عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وذكر أشياء نحو هذا (مختصر سنن أبي داود للمنذري: 2/174).
عناية القرآن بمصارف الزكاة
وإذا كان أمر الزكاة قد جاء في القرآن مجملا كما عرفنا، فإنه قد عني -بصفة خاصة- ببيان الجهات التي تصرف لها وفيها الزكاة، ولم يدعها لحاكم يقسمها، وفق رأي له قاصر، أو هوى متسلط، أو عصبية جاهلية.
كما لم يدعها لمطامع الطامعين الذين لا يتورعون أن تمتد أيديهم إلى ما ليس لهم، والذين يزاحمون بمناكبهم المستحقين من أهل الفاقة والحاجة الحقيقيين، وفي عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- تطلع بعض ذوي الأعين الشرهة والأنفس النهمة، وسال لعابهم إلى أموال الصدقات، متوقعين من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن ينفحهم منها نفحات تشبع من طموحهم، وترضي من شرههم، فلما ضرب الرسول -صلى الله عليه وسلم- عنهم صفحًا ولم يلق إليهم بالا، غمزوا ولمزوا، وتطاولوا على المقام النبوي الكريم، فنزلت آيات الكتاب تفضح نفاقهم، وتكشف شرههم، وتبين جور موازينهم النفعية الشخصية، وتبين المصارف التي يجب أن توضع فيها الزكاة، وذلك قوله تعالى: {وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ . وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ رَاغِبُونَ . إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (التوبة: 58 – 60).
وبهذه الآيات انقطعت المطامع، وتبينت المصارف، وعرف كل ذي حق حقه.
روى أبو داود عن زياد بن الحارث الصدائي قال: أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فبايعته -وذكر حديثًا طويلا- فأتاه رجل فقال: أعطني من الصدقة، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقة، حتى حكم هو فيها، فجزأها ثمانية أجزاء، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك” (في إسناده عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي وقد تكلم فيه غير واحد (مختصر المنذري: 2/230).
سر عناية القرآن بمصارف الزكاة
لقد نبه العلماء الاقتصاديون والاجتماعيون على أن المهم ليس هو جباية الأموال وتحصيلها، فقد تستطيع الحكومات بوسائل شتى الحصول على ضرائب مباشرة وغير مباشرة، وقد يكون ذلك مع رعاية العدل والنصفة، ولكن الأهم من ذلك هو: أين تصرف هذه الأموال بعد تحصيلها؟ فهنا قد يميل الميزان، وتلعب الأهواء، ويأخذ المال من لا يستحقه، ويحرم منه من يستحقه، فلا عجب بعد ذلك أن يهتم القرآن بهذا الأمر ولا يدعه مجملا، كما ترك أشياء كثيرة أخرى من الزكاة للسنة تبينها وتفصلها.
لقد عرف التاريخ المالي ألوانًا كثيرة من الضرائب قبل الإسلام، كانت تجبى من طوائف الشعب المختلفة، طوعًا أو كرهًا، ثم تجمع في خزانات الأباطرة والملوك، لتنفق على أشخاصهم وأقاربهم وأعوانهم، وفي كل ما يزيد أبهتهم ومتعتهم ويظهر عظمتهم وسلطانهم، ضاربين عرض الحائط، بكل ما تحتاجه فئات الشعب العاملة والضعيفة من الفقراء والمساكين.
فلما جاء الإسلام وجه عنايته الأولى إلى تلك الفئات المحتاجة، وجعل لهم النصيب الأوفر في أموال الزكاة خاصة، وفي موارد الدولة عامة، وكان هذا الاتجاه الاجتماعي الرشيد سبقًا بعيدًا في عالم المالية والضرائب والإنفاق الحكومي، لم تعرفه الإنسانية إلا بعد قرون طويلة.
والله أعلم