التطوع.. محفزاته وعقباته

في دراسة وافية عن التطوع قدم الأستاذ توفيق عسيران رئيس جمعية العمل التطوعي اللبنانية رؤية شاملة لكيفية النهوض بالعمل التطوعي في العالم العربي، حيث حدد ملامح وأسس تحفيز التطوع والعقبات التي تحول دون النهوض به كما ينبغي، وفي السطور القادمة نعرض أهم ما جاء في هذه الدراسة.
 
في البداية يتحدث الباحث عن تحديد الحاجة إلى المتطوعين حيث تُعتبر هذه المسألة على جانب كبير من الأهمية؛ لأنها تتصل اتصالا وثيقا بمسألة الاستغلال الصحيح لطاقات المتطوعين، فإذا كان من المهم إيجاد متطوع فإنه من الأهم أن نحسن استغلال طاقاته في الجوانب التي تحقق سد حاجات أساسية من حاجات المجتمع-المؤسسة تتفق وإمكانات المتطوع ورغباته ولا تتعارض مع مفاهيمه الثقافية والمجتمعية ولا تضعه في خانة الملاحقة القانونية أو التعارض مع المفاهيم الاجتماعية السائدة.
ويكتسب اختيار المتطوعين بعدا خاصا ومهمًّا لعدة أسباب منها أنه يساعد على بلورة المفهوم المشترك لكل من الطرفين لجهة طبيعة العمل والإطار الذي سيعمل من خلاله، كما أن الاختيار الصحيح يسهم في توفير القدرة على استغلال سليم لطاقات المتطوع ويخفض كلفة الإعداد، ويسرع في بلوغ الأهداف ويمنع التضارب ويحول دون الإحباط ويساعد على عدم تحمل المتطوع فوق طاقته.
ويلعب التحفيز والتنشيط دورًا بارزًا في المحافظة على المتطوع واستغلال طاقاته وخبراته المستجدة، سواء على صعيد الجماعة أو المؤسسة. وإن ثمة مجالات عديدة للتحفيز منها:
المشاركة: تعني أن يكون المتطوع في صلب العمل الذي تعمل به المؤسسة- الجماعة وليس على هامشها.
الشفافية: أن يكون عمل المؤسسة أو الجماعة، معروفا مرئيا لا أهداف مستترة.
الإبراز: يجب الاعتراف دائما بإنجازات المتطوع وعطاءاته.
الإدماج: يجب أن تتاح أمام المتطوع فرصة الاندماج في المؤسسة والجماعة، فيما لو رغب بذلك.
التشاور: يجب إتاحة الفرصة لحوارات وأخذ آرائهم بعين الاعتبار. إزالة العقبات: أكثر ما يسيء إلى المتطوع "الروتين"…. فقد يأتي متحمسا ثم يصطدم ببوقراطية إدارية أو فنية أو غير ذلك؛ وهو ما قد يؤدي إلى تثبيط حماسه؛ لذلك يجب العمل دائما على إزالة مختلف العقبات من أمامه لتشجيعه على مواصلة العمل.
الشكر والتقدير: وهو جزء من الإبراز، ولكن يختلف عنه فالأول قد يحتاج إلى مناسبات عامة، بينما يقتصر الثاني على كتاب شكر وتنويه، يرسل إليه في حال أداء الفترة التي تطوع خلالها.. آملين لقاءه مجددًا في رحاب أخرى من رحاب العمل.
ثم ينطلق الباحث إلى نقطة أخرى تتعلق بمعوقات التطوع في العالم العربي، مؤكدا أنها تتلخص في 4 معوقات أساسية، وهي:
1- إشكاليات التسييس
2-اختلال الأولويات
3-جمود الخطاب الفكري وتقليديته في ميدان التطوع
4-ازدواجية المرجعية المعرفية في هذا الميدان
ثم يفصل الباحث تفاصيل الإشكاليات والمعوقات قائلا:
إشكالية التسييس التي تجلّت عندما سخرّت السلطات الحاكمة كافة أنماط الخطاب الثقافي لخدمة سياساتها، ومن ثم جرى إدماج ما يتعلق بثقافة "التطوع" ضمن ثقافة الهيمنة التي فرضتها الدولة، كما خضعت البنى المؤسسية "للأعمال التطوعية" للتفكيك وإعادة الهيكلة والتنميط وفقا للمسطرة الحكومية.
ولما كانت الجماعات الحاكمة في النظم الثورية خلال عقود الخمسينيات والستينيات والسبعينيات قد تبنت أيديولوجيات سياسية مفارقة في كثير من جوانبها للتراث السياسي والثقافي للمجتمع، فقد تفاقمت إشكاليات "تسييس" ثقافة التطوع؛ إذ ضاق الفرق بين ما هو طوعي وما هو إجباري حسب منطق السلطة، وهُمِّشت الثقافة الدينية، أو اُختزلت في أفضل الحالات في مقولات مؤيدة لسياسة الدولة؛ الأمر الذي أدى إلى ضمور "ثقافة التطوع" بعد تهميش منبعها الأكبر؛ وهو الثقافة الدينية الأصيلة.
وبالرغم من التحولات التي أدت بمعظم الأنظمة العربية إلى الابتعاد النسبي عن فلسفات الحكم الشمولي والسلطوي –خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين- فإن إشكالية تسييس ثقافة العمل التطوعي لم تنته، وأخذت أبعادًا جديدة في ظل موجة العولمة وما ولّدته من خشية -مشروعة في بعض الحالات- لدى الدولة على أمنها وسلطتها من مقولات ومفاهيم وشعارات يجري ترويجها باسم التطوع، أو المنظمات غير الحكومية أو المجتمع المدني، وبعد أن كان التسييس يجري في السابق من جهة الدولة على حساب المجتمع، أضحى في السنوات الأخيرة مزدوجا تمارسه الدولة وعديد من الهيئات التطوعية والاجتماعية المدنية في آنٍ واحد، وبخاصة تلك التي تتبنى الثقافة الوافدة في مجال التطوع.
اختلال الأولويات
تجلت اختلال الأولويات داخل ثقافة التطوع السائدة في التركيز على بث مفاهيم وأفكار التطوع حول قضايا لا تحتل أولويات متقدمة في سُلَّم الاهتمام العام للمجتمع؛ الأمر الذي تؤكده ممارسات الخطاب الثقافي الوافد؛ حيث يولي اهتماما كبيرا بأفكار التطوع والعمل الأهلي في قضايا المرأة، والسلام، والبيئة أكبر من قضايا محو الأمية والبطالة والرعاية الصحية التي تحتل أولوية متقدمة بالنسبة لمعظم المجتمعات العربية.
وربما أسهمت إشكالية التسييس المشار إليها، في ظهور إشكالية اختلال أولويات ثقافة التطوع؛ إما لاحتكار السلطة للشأن الثقافي العام في مرحلة سابقة كما أوضحنا، وإما بسبب توجيه عديد من فعاليات العمل التطوعي لاهتمامها ناحية مواجهة الدولة، والسعي لتحرير الشأن الثقافي التطوعي من هيمنتها، وإما للأمرين معا. وفي جميع الحالات فإن هذا الاختلال لا يخدم أيا من الطرفين (المجتمع أو الدولة)، وإنما ينطوي على سلبيات كثيرة لكليهما.
جمود الخطاب
نظرا لحالة التكلس الذي تعانيه قيادات العمل التطوعي، وعدم قدرتها على إنتاج خطاب ثقافي يتسم بالفاعلية والتجديد والتجاوب مع متغيرات الواقع، فإنها تواجه إشكالية جمود وتقليدية الخطاب الفكري الذي تمارسه معظم هذه القيادات.
إن جمود خطاب ثقافة التطوع وتقليديته -على هذا النحو- تجعله غير قادر على التوسع وكسب قواعد اجتماعية جديدة؛ بسبب جموده الداخلي وكذلك سيطرة قيم الثقافة الفردية وانصراف معظم أفراد المجتمع لحل أزماتهم الخاصة، كما أن هذا الجمود يجعله حبيسا لأطره المحلية والقطرية، وعاجزا عن التفاعل أو التوافق مع الخطاب العالمي لثقافة التطوع، ناهيك عن أن يسهم في صياغة هذا الخطاب، والنتيجة النهائية لذلك هي استمرار قابلية ثقافة التطوع بالمجتمع العربي للتأثر بثقافة الآخر والتبعية لها، دون القدرة على التأثير فيها أو تجنب سلبياتها.
تستند ثقافة العمل التطوعي في المجتمع العربي في قسمها الموروث إلى المرجعية التراثية الدينية، بينما تستند في قسمها الوافد إلى المرجعية الوضعية العلمانية، وتتسبب هذه الازدواجية في ظهور ازدواجية المرجعية المعرفية في هذا الميدان لتسبب كثيرًا من التناقضات والانقسامات داخل خطاب الثقافة السائدة للتطوع؛ إذ يعمد أنصار "الموروث" إلى التركيز على المضمون الديني الإسلامي للتطوع مع إعطائه تفسيرًا ضيقا لا يتسع في كثير من الحالات لغير المسلمين، وذلك كلما وجدوا أنصار "الوافد" يركزون بدورهم على المضمون المادي، "الدنيوي" للتطوع وينفون -أو يتجاهلون- أية أبعاد روحية أو دينية له، ولا يعود مثل هذا الانقسام إلا بآثار سلبية على ثقافة التطوع بصفة عامة.
وتسبب إشكالية "ازدواجية المرجعية" ضررًا آخر لثقافة التطوع في المجتمع العربي بإسهامها في إيجاد منافسة غير متكافئة بين المكون "الموروث" والمكون "الوافد"؛ حيث لا يجد أنصار "الوافد" مانعًا -حسب مرجعيتهم المعرفية- يمنعهم من قبول التمويل الأجنبي، أو العمل طبقا لأجندة أولويات لا تخدم المجتمع العربي الذي يعملون فيه بالضرورة، فضلاً عن الآثار السلبية لتلك الأجندة الأجنبية على نظام القيم والأخلاقيات في مجتمعنا العربي ليس ذلك فحسب، وإنما يؤدي هذا "التمويل الأجنبي" إلى خلق حالة من التناقض في منظومة القيم والمبادئ التي تقوم على أساسها ثقافة التطوع؛ فبينما تؤكد الثقافة الموروثة على قيم الاعتماد على الذات، والتضحية، والبذل، والعطاء من ذات اليد، والإيثار، تأتي الثقافة التطوعية الوافدة -بقبولها التمويل الأجنبي- لتؤكد على قيم التواكل على الغير، أو التطوع بأموال الآخرين واستمرار الخضوع وذل المسألة.