أصدر “مدى الكرمل”، المركز العربيّ للدراسات الاجتماعيّة والتطبيقيّة، في حيفا، كتابًا بعنوان “الأرشيفات في إسرائيل والرواية التاريخيّة الإسرائيليّة والنكبة”، كشف النقاب عن تقرير يدحض الرواية التاريخيّة الإسرائيليّة”، وهو من تأليف الباحث والأستاذ الجامعيّ، محمود محارب. يكشف الكاتب، من خلال عدّة مَحاور، النقابَ عن التقرير الذي يدحض الرواية التاريخيّة الإسرائيليّة، وذلك من خلال التطرُّق إلى الأرشيفات الإسرائيليّة كأداة لبَلْوَرة أساطير حول تاريخ تأسيس الدولة وحرب عام 1948، إذ رسمت هذه الرواية صورة ورديّة عن إسرائيل ملخَّصها أنّها ضحيّة ومُحِبّة للسلام.
يتضمّن المحور الثاني في الكتاب تأثير عمل المؤرّخين الإسرائيليين الجدد، كتاباتهم وأبحاثهم على الرواية الورديّة التي قامت ببنائها إسرائيل؛ إذ إنّ ما قاموا بكتابته ونقله خرجَ عن هذه الرواية وأسهَمَ في دحضها وتقويضها. كذلك تطرّق المحوران الثالث والرابع إلى سيرورة إغلاق وثائق في الأرشيفات الإسرائيليّة تناقضت مع الرواية التاريخيّة الإسرائيليّة، وتتعلّق خصوصًا بالصراع العربيّ- الإسرائيليّ والقضيّة الفلسطينيّة والنكبة. وطبقاً لبيان “مدى الكرمل” فقد سعى الكتاب إلى عرض المراحل المفصليّة المتعلّقة بالأرشيفات الإسرائيليّة منذ تأسيسها حتّى اليوم، بداية من الإجراءات القانونيّة والإداريّة التي اتّخذتها لإبقاء هذه الوثائق مغلقة تمامًا في الأرشيفات الإسرائيليّة والتستُّر عليها، انتهاء إلى محاولة تعزيز الرواية الإسرائيليّة بتلفيق أبحاث ودراسات تدعم روايتها التاريخيّة الكاذبة.
مدينة اللد
وُلد الدكتور محارب في مدينة اللدّ، وحصل على شهادة البكالوريوس في العلوم السياسيّة من الجامعة العبريّة في القدس، وفي 1986 حصل على الدكتوراه في العلوم السياسيّة من جامعة ريدينـﭺ في بريطانيا. انخرط في العمل الوطنيّ منذ صغره، وشارك في تأسيس حركة أبناء البلد، ولاحقًا شارك في تأسيس حزب “التجمّع الوطنيّ الديمقراطيّ”. له العديد من الكتب وعشرات الدراسات المنشورة في مجلّات مُحَكَّمة عن الصراع العربيّ- الإسرائيليّ، وعن الصهيونيّة وإسرائيل والقضيّة الفلسطينيّة. ويوضح محارب في كتابه أن الأرشيفات الإسرائيليّة تعجّ بوثائق كثيرة جدًّا تتناقض مع الرواية التاريخيّة الإسرائيليّة الرسميّة بشأن النكبة وحرب عام 1948 والصراع العربيّ- الإسرائيليّ. منوها بأنه رغم الإجراءات القانونيّة والإداريّة التي اتّخذتها إسرائيل منذ تأسيسها حتّى اليوم لإبقاء هذه الوثائق مغلقة تمامًا في الأرشيفات الإسرائيليّة، فإنّها لم تتمكّن من التستّر عليها كلّيًّا. ويرى أنه كان من الصعب استمرار التستُّر على جريمة بهذا الحجم، وإنْ كان مَن ارتكب جريمة التطهير العرْقيّ، المرافَق بأكثر من 110 مجازر، مجتمَعًا استيطانيًّا محزَّبًا سياسيًّا ومُؤَدْلَجًا عنصريًّا إلى أبعد الحدود، وأسَّسَ وجوده بنفي وجود الآخرين.
المؤرخون الجدد
ويقول إنه بعد مرور أكثر من ثلاثة عقود على الجريمة، بدأت أبحاث ودراسات كثيرة للمؤرّخين الإسرائيليين الجدد وغيرهم ترى النور، استندت إلى الوثائق في الأرشيفات الإسرائيليّة، ولا سيّما العامّة والخاصّة التي كَشفت، شيئًا فشيئًا، عن خطط التهجير وعن عمليّات الطرد المنظَّم للفلسطينيّين، وعن المجازر التي اقترفها الجيش الإسرائيليّ والمنظَّمات العسكريّة اليهوديّة في حقّ الفلسطينيّين سنة 1948. ورغم الجهد الكبير والفحص الشامل الذي ما انفكّ الجهاز المسؤول عن الأمن في وزارة الأمن (وهو أحد أجهزة الأمن الإسرائيليّة الأشدّ سطوة) يقوم به للأرشيفات الإسرائيليّة لإغلاق الوثائق التي تتناقض مع الرواية التاريخية الإسرائيليّة الرسميّة، منذ سنة 2002 حتّى اليوم، ففي الكثير ممّا جرى الكشف عنه من وثائق كثيرٌ من الدلائل الدامغة التي تؤكّد صحّة الرواية التاريخيّة الفلسطينيّة التي طرحت منذ البداية أنّ إسرائيل طردت الفلسطينيّين من وطنهم سنة 1948 وفْق خطط أعدّتها مسبقًا.
ويوضح محارب أن تقرير المخابرات العسكريّة الإسرائيليّة عن “هجرة الفلسطينيّين في الفترة الممتدّة بين 1/12/1947 وَ 1/6/1948” الذي عرضته وحلّلته هذه الدراسة يتناقض مع الرواية التاريخيّة الإسرائيليّة الرسميّة بشأن تهجير الفلسطينيّين، في جميع مركّباتها. ويؤكّد في الوقت نفسه صحّة الرواية التاريخيّة الفلسطينيّة التي باتت في العَقدَيْن الأخيرَيْن أكثر قبولًا في الأوساط الأكاديميّة في العالم، وما عادت الرواية التاريخيّة الإسرائيليّة مقبولة في هذه الدوائر، إلّا لدى أنصار الصهيونيّة. مرجحا أنه قد حان الوقت كي يجري بذل الجهد فلسطينيًّا وعربيًّا ودوليًّا لتجريم كلّ من ينفي جريمة التطهير العِرْقيّ التي ارتكبتها إسرائيل ضدّ الفلسطينيّين سنة 1948.
بن غـوريون والطرد ومحاولات الإخفاء
ويقول محارب في فصل التهجير إنه لم يكن موضوع طرد الفلسطينيّين، عشيّة حرب 1948، أحجية لدى قيادة الحركة الصهيونيّة وقيادة الاستيطان في فلسطين، بل كان ذلك أمرًا مفروغًا منه وبديهيًّا ولا بدّ من تنفيذه كجزء من عمليّة إقامة الدولة اليهوديّة في فلسطين. منبها أنه من دون طرد الفلسطينيّين لن تكون هذه الدولة دولة يهوديّة، وإن اقتصرت هذه الدولة على المنطقة الفلسطينيّة التي خصّصتها الأمم المتّحدة للدولة اليهوديّة وَفْق قرار التقسيم، وإنّما ستكون دولة ثنائيّة القوميّة يشكّل الفلسطينيّون أغلبيّة فيها، وهذا ما كانت الحركة الصهيونيّة ترفضه بشدّة. ويضيف: “حرص داﭬـيد بن غـوريون، مؤسّس إسرائيل وقائد عمليّة طرد الفلسطينيّين، كلّ الحرص على إخفاء وعدم إبقاء أدلّة مكتوبة بشأن القرارات التي اتّخذها هو وحكومته وقيادة الهَـﭽَـناه والجيش الإسرائيليّ، وفي كثير من الحالات اكتفى بالتعبئة الشفويّة بضرورة طرد الفلسطينيّين، وبالتعليمات الشفويّة، وبالإيماءات المباشرة وغير المباشرة في ما يخصّ تنفيذ عمليّات الطرد. كذلك حرص بن غـوريون على إخفاء أيّ دليل على دَوْره في طرد الفلسطينيّين عند نشره مذكّراته ويوميّاته وكتبه المختلفة. رغم هذا، الكثير من المصادر والمراجع الإسرائيليّة كشف، في العقود الماضية، عن حقيقة سياسة بن غـوريون في ما يخصّ طرد الفلسطينيّين، ومن المهمّ الإشارة إلى بعضها باقتضاب”.
يشير محارب لما كتبه المؤرّخ وعالم الاجتماع الإسرائيليّ أوري بن إلِيعِزِر عن سياسة بن غوريون بشأن طرد الفلسطينيّين قائلًا: “لعلّ الظاهرة الاجتماعيّة المثيرة جدًّا للاهتمام بخصوص الاحتلالات وعمليّات الطرد هي حقيقة عدم الإعلان عن هذه السياسة على نحوٍ واضح، وعدم تدوينها، ومع ذلك عرف الجميع عن وجودها. وينبه بن اليعزر أنه في أغلبيّة الحالات، لم تُصْدِر القيادة السياسيّة أو الهيئة العامّة للجيش، قبل العمليّة أو خلالها، أيَّ تعليمات بشأن مصير السكّان العرب، ولكن عمليّات الطرد نُفِّذت. ويؤكد محارب أنه في حقيقة الأمر، لم يكن القادة الشباب في الجيش وفي الـﭙَـلْماح بحاجة إلى تعليمات فعليّة، لا شفويًّا ولا كتابيًّا، لأنّهم كانوا يتحرّكون بتأثير الأيديولوجيا العسكريّة، التي صيغت في السنوات الاثنتي عشرة الماضية، واعتُبِر وَفْقها احتلال القرى وقتل السكّان وطرد المتبقّين منهم عملًا منطقيًّا أو ضروريًّا، وتنفيذًا لعمل عسكريّ يتغلّب على الاعتبارات الأخلاقيّة، وبالتأكيد عند الحديث عن أهداف قوميّة”.
مذبحة في قيسارية
وساقَ بِنْ إلِيعِزِر العديد من الأمثلة عن الروح التي كانت سائدة في صفوف القوّات العسكريّة اليهوديّة خلال حرب عام 1948، ولا سيّما في صفوف الـﭙَـلْماح، ووضّح من خلالها كيف قتلت القوّات العسكريّة اليهوديّة الفلسطينيّين وطَردت مَن تبقّى منهم دونما حاجة إلى إصدار أوامر عسكريّة مكتوبة. فيذكر مثلًا في هذا الصدد أنّ قوات الــﭙَـلْماح احتلّت في شباط عام 1948 قرية قيسارية “وذبحت أغلبيّة سكّانها وطردت الباقين ودمّرت القرية”، وقد جرى ذلك قبل عمليّات الطرد الكبيرة المخطَّطة. ولاحظ بن إلِيعِزر أنّه بينما كان بن غـوريون وقادة الجيش ينفّذون سياسة طرد الفلسطينيّين على أرض الواقع، ظلَّ بن غـوريون هو وزملاؤه طيلة أيّام الحرب يطرحون في العلن خطابًا معتدلًا “يُظهِر إسرائيل شعبًا يتوق إلى التوصّل إلى سلام مع العرب وإلى عقد حلف معهم”. وعندما كان بعض الوزراء يسألون بن غـوريون عن طرد الفلسطينيّين أو قتلهم أو تدمير قراهم، كان بن غـوريون يدّعي -على نحوِ ما يؤكّد بِنْ إلِيعِزِر- أنّه “لم يسمع ولم يعرف ولم يرَ”، وهو الذي كان “يهتمّ بأدقّ التفاصيل في كلّ ما يتعلّق بالمجال العسكريّ” ويعرف كلّ شاردة وواردة تتعلّق بالجيش ونشاطه.
تنفيذ أوامر دون سماعها
وأشار المؤرّخ الإسرائيليّ يِـﭽِـئال عِيلام، في كتاب له، إلى أنّ الذين يحرّكون التاريخ في المفترقات التاريخيّة الـمُهِمّة هم “منفّذو الأوامر” الذين يدركون جيّدًا ما هي أهداف القيادة، وخَلصَ إلى أنّه لم تكن ثمّة ضرورة لأن تُصْدِر القيادة الإسرائيليّة في حرب عام 1948 أوامرَ تقضي بطرد العرب الفلسطينيّين؛ وذلك لوجود “منفّذي الأوامر”، أي قادة وضبّاط وجنود الهَـﭽَـناه والـﭙـَلْماح والجيش الإسرائيليّ، الذين كانوا يعرفون جيّدًا أهداف القيادة الإسرائيليّة ورغباتها وما تريده منهم أن يفعلوه، ويعرفون كيف ينفّذون ذلك دون الحاجة إلى أوامر. وهذا ما أكّده أيضًا قائد المنطقة الشماليّة في حرب عام 1948 موشيه كرمل في هذا الخصوص، الذي قال: “بشكل عامّ لم يكن بن غـوريون يختتم حديثه بإصدار أمر. إنّه كان يثق بأنّك فهمت قصده وأنّك تعرف ما يجب فعله”.
وأكّد المؤرخ الإسرائيليّ ميخائيل بار زوهَر، الكاتب الرسميّ لسيرة حياة بن غـوريون، أنّ بن غـوريون “لم يُصْدِر أمرًا رسميًّا بشأن أيّ عمليّة مخطَّطة تهدف إلى طرد العرب الذين لم يهربوا، بَيْدَ أنّه أومأ بذلك إلى ضباطه وجنوده”. ويضيف بار زوهَر، استنادًا إلى مقابلة أجراها وقتذاك مع يتسحاق رابين، أنّه لا يزال “محفورًا في ذاكرة رابين النقاشُ الذي جرى في هيئة قيادة عمليّة داني، بعد احتلال مدينتي اللدّ والرملة. لقد احتُلّت المدينتان في عمليّة التفاف ولم يهرب العرب منهما، وبقي فيهما نحو 60,000. ماذا نفعل بهم؟ لقد طَرح هذا السؤالَ قائدُ العمليّة يِـﭽِـئال ألون في النقاش الذي كان من بين المشاركين فيه يِسْرائِيل ﭼـَليلي وَيِـﭽِـئال يَدِين ويتسحاق رابين. لقد تحدّث المشاركون في النقاش، وقال بعضهم إنّه يجب طرد العرب. بن غـوريون لم يتحدّث. جلس صامتًا واستمع إلى أقوال المشاركين دون أيّ ردّ منه. وانتهى النقاش دون نتائج، ثمّ طُرح موضوع آخَر على جدول الأعمال. وفي هذه المرّة، شارك بن غـوريون في النقاش. وعندما انفضّ الاجتماع، خرج رابين وألون معًا بصحبة بن غـوريون. ألون سأل بن غـوريون: “ماذا نفعل مع العرب”؟ وحسب ما قاله رابين، حرّك بن غـوريون يده إلى الخلف بشدّة وقال بما معناه: “اطردهم”.
مذكرات كاذبة
وأشار المؤرّخ الإسرائيليّ آدم راز إلى وجود الكثير من الشهادات التي تُظهِر الفرق بين سياسةِ بن غوريون العلنيّة التي كان يصرّح بها، وسياستِهِ الفعليّة التي كانت تنفَّذ على أرض الواقع، وإلى وجود شهادات تؤكّد سياسة بن غوريون الفعليّة وعدم التزامه بقول الحقيقة في مذكّراته. ويسوق راز مثالًا على ذلك ما قاله موشيه كرمل قائد الجبهة الشماليّة في حرب عام 1948، بعد نشر مذكّرات بن غوريون، وملخَّصه أنّ بن غوريون تجنّب قول الحقيقة في مذكّراته في كثير من الأحيان، وأنّ موشيه كرمل أكّد أنّ “خبراء مختصّين بمذكّرات بن غوريون” أكثر منه “وجدوا فيها الكثير من النواقص وعدم الدقّة وعدم قول الحقيقة”، وأنّ بن غوريون كان معنيًّا أن يثبّت موقفًا تاريخيًّا في هذه القضيّة أو تلك، وإن لم يكن يتلاءم مئة بالمئة مع واقع تلك الأيّام”.
استنساخ التاريخ
وفي هذا الصدد أكّد مُرْدخاي مَكلِف، أحد قادة الجبهة الشماليّة في حرب عام 1948، والذي أصبح لاحقًا ثالث رئيس لهيئة أركان الجيش الإسرائيليّ، أنّ بن غوريون كان يميّز بين مواقفه وممارساته الفعليّة وما “يتركه للتاريخ”، وأنّه كانت لِبِنْ غوريون “حواسُّ تاريخيّة قويّة جدًّا”، وأنّه كان شديد الحذر بشأن موقفه في “الأمور التي تُكتَب”. ويشير محارب في كتابه إلى أن القيادة الإسرائيليّة لم تكتفِ بإخفاء الأدلّة المتعلّقة بطرد الفلسطينيّين وكلّ ما يتناقض مع روايتها التاريخيّة، بل حاولت تعزيزها بتلفيق أبحاث ودراسات تدعم روايتها التاريخيّة الكاذبة. ويقول إنه على سبيل المثال، طلب بن غوريون -رئيس الحكومة ووزير الأمن والمسؤول الأوّل عن طرد الفلسطينيّين وارتكاب المجازر ضدّهم- إلى معهد شيلُوَاح في سنة 1961، في أعقاب ضغط الرئيس الأمريكيّ جون كنيدي (1960-1963) على إسرائيل لقبول عودة جزء من اللاجئين الفلسطينيّين إلى ديارهم، القيامَ بإعداد “دراسات” تثْبِت ما يلي:
“أ- ثمّة قيادات عربيّة في فلسطين وخارجها، وهيئات عربيّة وفلسطينيّة، شجّعت العرب الفلسطينيّين على الفرار من فلسطين في حرب عام 1948.
ب– الجيوش العربيّة والمتطوّعون العربُ ساعدوا الفلسطينيّين على الهرب، سواء أكان ذلك بإخلائهم قرى عربيّة من أهلها أم بعلاقاتهم السيّئة بالفلسطينيّين.
ج– ساعد الجيش البريطانيّ الفلسطينيّين على الهرب في عديد من الأماكن.
د– بذلت مؤسّسات ومنظّمات يهوديّة جهدها لمنع الهرب”.
استجاب معهد شيلواح لطلب بن غوريون، وكلّف عددًا من الباحثين الإسرائيليّين فيه بتنفيذ ما أراده بن غوريون. وكان من بين الذين عملوا في هذا المشروع روني ﭼـباي، وموشيه مَعُوز، وأوري شتندل. وفي بداية عمله، توجّه معوز إلى داﭬـيد كِمْحي (أحد كبار موظّفي جهاز الموساد آنذاك)، وطلب منه المساعدة في جمع الوثائق. وشرح مَعُوز في رسالته إلى كِمْحي: “إنّ هدفنا هو إثبات أنّ الهرب حصل بتشجيع من القيادات العربيّة المحلّيّة والحكومات العربيّة وبمساعدة البريطانيّين وضغط الجيوش العربيّة على السكّان المحلّيّين”.
قلب الحقائق
يؤكد الباحث تعمّد المؤسّسة الإسرائيليّة تلفيق أبحاث ودراسات تثبت روايتها التاريخيّة، قطعت شوطًا كبيرًا في محاولة التمادي في قلب الحقائق، وفي التنكّر لِما كانت قيادة المؤسّسة الإسرائيليّة، وأنها هي نفسها قد اعترفت بحدوثه آنذاك. فعند ارتكاب منظّمتَيْ إِيتْسِل ولِيحِي مجزرة دير ياسين في الـ 9 من نيسان عام 1948، بمساعدة فعّالة من منظّمة الهـَﭽَـناه، أقرّت قيادة الاستيطان المنظَّم بقيادة بن غوريون بوقوعها. وعلى الرغم من ذلك، نشرت وزارة الخارجيّة الإسرائيليّة في سنة 1969 كرّاسًا باللغة الإنـكـليزيّة كتبه يعقوﭪ موريس، وزّعته على جميع سفاراتها في العالم، فيه نفت حدوث مجزرة دير ياسين؛ بل لقد ادّعى هذا الكرّاس أنّ مجزرة دير ياسين لم تَحْدث إطلاقًا، ولم تكن سوى أكذوبة عربيّة من نسج الخيال العربيّ.
وثيقة الـمَحاور
في سياق محاولة إسرائيل تعزيز روايتها التاريخيّة الرسميّة، اتّخذت منذ تأسيسها مجموعة من القرارات والإجراءات القانونيّة والإداريّة، من خلالها أغلقت الأرشيفات الإسرائيلية وثائقَ مَحاضر اجتماعات الحكومة والجيش الإسرائيليّ، ووثائقَ المخابرات (ولا سيّما المخابرات العسكريّة)، ووثائقَ جميع المؤسّسات الإسرائيليّة الأخرى ذات الصلة بطرد الفلسطينيّين من وطنهم، وتلك المتعلّقة باتّخاذ كلّ التدابير القانونيّة والإجرائيّة لمنع عودة اللاجئين من العودة إلى ديارهم، وبارتكاب المجازر ضدّهم، وبأعمال الاغتصاب، وبالقتل بدم بارد مدنيّين عُزّلًا، وبقتل الأسرى العرب بعد انتهاء المعارك، بما في ذلك قتل الأسرى العرب وهم مقيَّدو الأيدي والأرجل، وبالتمثيل بالجثث، وبأعمال السلب والنهب وتدمير القرى. ويقول إنه في سنة 1988، بالتزامن مع بدء أرشيف الجيش الإسرائيليّ في السماح لباحثين من خارج المؤسّسة الأمنية الإسرائيليّة بالاطّلاع على موادّ يكشفها لهم الأرشيف، صاغت نائبة مدير أرشيف الجيش الإسرائيليّ، زهاﭬـا أوسطفيلد، وثيقة حملت العنوان: “تفصيل مَحاور ذات حسّاسيّة أمنيّة وسياسيّة وشخصيّة”، وباتت تُعْرَف بـِ “وثيقة الـمَحاور”، حدّدت فيها المواضيع التي ينبغي إبقاؤها مغلقة في أرشيف الجيش الإسرائيليّ. وجاءت هذه الوثيقة في اثنَيْ عشر مِحْورًا، وشملت موادَّ ومواضيعَ حسّاسةً جمّة تتناقض، أو تختلف، مع الرواية التاريخيّة الإسرائيليّة، بشأن حرب عام 1948 والنكبة والصراع العربيّ- الإسرائيليّ. وقد طبّق أرشيف الجيش الإسرائيليّ المعايير التي وردت في تقرير الـمَحاور، في تحديده للموادّ التي يكشفها للباحثين أو يحجبها عنهم، منذ وضع تقرير الـمَحاور حتّى اليوم، وذلك على الرغم من الإضافات والتعليمات الجديدة التي وضعها الأرشيف نفسه بشأن هذا الموضوع خلال العقود المنصرمة.
وقد شمل المحور الثاني، الذي حمل العنوان: “المواضيع التي قد تثير نقاشًا جماهيريًّا وسياسيًّا”، الكثيرَ من الموادّ، نحو: “الموادّ التي لم تُنشَر بعد بشأن منظّمتَيْ ‘إتْسِل‘ وَ ‘لِيحِي‘”، وَ “تقارير عن أعمال جنائيّة وأعمال فظيعة ارتكبتها منظّمتا ‘إتْسِل‘ وَ ‘لِيحِي‘ (سلب، نهب، قتل، ابتزاز، مصادَرة، استملاك، تخريب، سرقة، خطف)”، ومجزرة دير ياسين. أمّا المحور الثالث الذي جاء تحت العنوان: “الموادّ التي قد تؤذي صورة الجيش الإسرائيليّ كجيش محتلّ عديم الأسس الأخلاقيّة”، فقد تضمّن -في ما تضمّن- “الموادّ التي قد يظهر فيها تصرُّفٌ عنيف ضدّ سكّان عرب وأعمالٌ وحشيّة (قتل، قتل ليس وَفْق ظروف المعركة، اغتصاب، سلب، نهب)”، فضلًا عن المساس بأماكن مقدّسة وانتهاك حرمة الكنائس والمساجد والمقابر، وأعمال جنائيّة وسرقات ونهب الممتلكات، وتزييف وإخفاء الأدلّة، وكذلك أعمال فظيعة ارتكبها الجيش الإسرائيليّ كمجازر الحولة والخالصة وعيلوط والدوايمة، على سبيل المثال.
تهجير مجدل عسقلان
وحمل المحور الرابع العنوان: “الموادّ المرتبطة بالصراع اليهوديّ- العربيّ التي قد تضرّ بأمن الدولة في الوقت الراهن أيضًا”، وتضمّن الموادَّ المتعلّقة بطرد العرب وبسياسة إسرائيل تجاه “المتسلّلين” الفلسطينيّين وأوامر إطلاق النار عليهم حتّى في حالات الشكّ في هُويّتهم، وأوامر بشأن استسلام العرب، وتحديد السياسة ضدّ عودة عرب إلى البلاد، وإخلاء بلدات وسكّان (كإخلاء بلدة المجدل، على سبيل المثال)، ونقل سكّان، واعتقالات إداريّة واعتقالات غير قانونيّة، والتصرّف العنيف ضدّ أسرى على النقيض ممّا تنصّ عليه اتّفاقيّة جنيــﭫ، مثل قتل الأسرى وتجاهل رفع الأعلام البيضاء، وكذلك تدمير القرى الفلسطينيّة ومصادَرة أراضي العرب وممتلكاتهم، وقصف مؤسّسات مدنيّة بالطائرات، كقصف مستشفى اللاجئين الفلسطينيّين في قِطاع غزّة، على سبيل المثال.
وحمل المحور التاسع العنوان: “منظومة العلاقات مع دول وأجسام دوليّة”، وتضمّن الموادّ المتعلّقة بالتعاون بين إسرائيل ودول أوروبا الشرقيّة أثناء حرب عام 1948، ولا سيّما الموادّ التي تتطرّق إلى صفقات السلاح بين دول أوروبا الشرقيّة وإسرائيل، وكذلك الموادّ المرتبطة بالفيلق التشيكيّ، إلى جانب الموادّ المتعلّقة باتّصالات وتسويات واتّفاقيّات مع دول عربيّة لم تُنشَر بعد.
تأثير المؤرّخين الجدد
ويوضح محمود محارب أنه بعد مرور أكثر من ثلاثة عقود على النكبة، وفي ضوء فتح بعض الوثائق في الأرشيفات الإسرائيليّة المتعلّقة بحرب عام 1948، ظهرت، في ثمانينيّات القرن الماضي، كتب ودراسات عديدة لباحثين إسرائيليّين باتوا يُعْرَفون لاحقًا بـِ “المؤرّخين الجدد”، من بينهم: سمحا فلابان؛ بِينِي موريس؛ آﭬـي شلايم؛ إيلان پاپه؛ توم سيــﭽِـﭫ. واختلفت هذه الدراسات مع الرواية التاريخيّة الإسرائيليّة الرسميّة بشأن حرب عام 1948، ولا سيّما في ما يخصّ طرد الفلسطينيّين وارتكاب مجازر ضدّهم وخلق مشكلة اللاجئين الفلسطينيّين. ويقول إنه رغم النقد الموجَّه إلى العديد من المؤرّخين الجدد، سواء أكان ذاك في ما يخصّ منهجهم البحثيّ أَمْ في استخلاصاتهم، فإنّ المعلومات المهِمّة والتفاصيل الكثيرة التي ذكروها في مؤلَّفاتهم، بشأن عمليّات طرد الفلسطينيّين والمجازر والاغتصاب والسلب والنهب، تعارضت مع الرواية التاريخيّة الإسرائيليّة الرسميّة وأسهمت في إضعافها وتقويضها.
مؤكدا أيضا أنه لجانب ذلك، أظهرت كتابات المؤرّخين الجدد وغيرهم أنّ التدابير التي اتّخذتها المؤسّسة الإسرائيليّة، بغية إحكام إغلاق الوثائق والموادّ الإسرائيليّة المتعلّقة بالنكبة، لم تكن مُحْكَمة بما فيه الكفاية. ويعود ذلك إلى عدّة أسباب، يأتي في مقدَّمها أنّ الكثير من الوثائق المتعلّقة بطرد الفلسطينيّين، وبمختلف جرائم الحرب التي ارتكبها الجيش الإسرائيليّ ضدّ الفلسطينيّين، ليس موجودًا في أرشيف الدولة وأرشيف الجيش الإسرائيليّ فحسب، وإنّما كذلك في العديد من الأرشيفات العامّة والخاصّة الإسرائيليّة، ولا سيّما أرشيفات الأحزاب الإسرائيليّة التي أسهَمَ قادتها العسكريّون والسياسيّون في هذه الجرائم، مثل أرشيف “بيت بيرل” (حزب مـﭙــاي- العمل) في كفار سابا، وأرشيف “ياد يَعَري” (حزب هَشُومير هَتْسَعير- مـﭙــام) في ﭼِـﭭـعات حَـﭭِـيـﭭـَه، وأرشيف “ياد طبنكين” (حزب أحدوت هعـﭭـوداه) في رمات إفعال.
ويتابع: “في الكثير من الحالات، بعض الملفّات التي كانت مغلقة في أرشيف الدولة، وأرشيف الجيش الإسرائيليّ، كانت مفتوحة أو كان فتحها أسهل في أرشيف أو أرشيفات الأحزاب، على نحوِ ما نجد في أرشيف “ياد يعري” في ﭼِـﭭـعات حَـﭭِـيـﭭـَه أو أرشيف حزب مـﭙــاي- العمل في بيت بيرل، على سبيل المثال. أضف إلى ذلك حقيقة أنّ المؤرّخين الجدد كانوا يهودًا إسرائيليّين، لم يكن معروفًا عنهم خروجهم عن الرواية التاريخيّة الإسرائيليّة للصراع العربيّ- الإسرائيليّ والنكبة؛ وهو ما سهّل وصولهم إلى الوثائق والملفّات في الأرشيفات دون إثارة الشكّ في أنّهم سيستخدمونها بما لا ينسجم مع الرواية التاريخيّة الإسرائيليّة.
تشديد القبضة على الأرشيفات
وأقلقت كتابات المؤرّخين الجدد، عن حرب 1948 وعن النكبة، المؤسَّسةَ الإسرائيليّة، وذلك لخروجها عن الرواية التاريخيّة الإسرائيليّة وإسهامها في دحضها أو في تقويضها. ولذا يقول محارب إن العديد من مؤرّخي المؤسّسة الإسرائيليّة انبروا لمهاجمتهم، والتشكيك في أبحاثهم، واتّهامهم بعدم الموضوعيّة والانحياز إلى الطرف الفلسطينيّ. بَيْدَ أنّ ذلك لم يحقّق الهدف المرجوّ منه، بل ربّما زاد من مكانة أبحاثهم وأهمّيّتها؛ فقد باتت كتابات المؤرّخين الجدد المستنِدة إلى وثائق في الأرشيفات الإسرائيليّة مرجعًا مهمًّا لكثير من الباحثين على الصعيدَيْن المحلّيّ والعالميّ. ويتابع محارب: “ليس هذا فحسب، وإنّما شَرَعَ كثير من الباحثين والدارسين في التوجُّه إلى الأرشيفات الإسرائيليّة للاطّلاع على الوثائق التي أشار إليها الباحثون الجدد وغيرهم، في مراجعهم، والتي تطرّقت إلى طرد الفلسطينيّين وارتكاب المجازر ضدّهم، وإلى غير ذلك، بغرض قراءتها كلّها والتعمّق في دراستها. وقد أثارت هذه الظاهرة سخط المؤسّسة الإسرائيليّة؛ فلجأت إلى تعزيز قبضتها على مختلف الأرشيفات الإسرائيليّة، سواء في ذلك أرشيف الدولة وأرشيف الجيش الإسرائيليّ والأرشيفات العامّة والخاصّة. فبدأت منذ نحو عَقْدَيْن في إجراء جرد شامل للملفّات التي في هذه الأرشيفات، وشَرَعت في إغلاق الملفّات التي تتناقض مع الرواية الإسرائيليّة بشأن حرب عام 1948 وبشأن الصراع العربيّ– الإسرائيليّ، ولا سيّما تلك الملفّات والوثائق التي أشار إليها المؤرّخون الجدد في كتاباتهم، وكلّفت الجهازَ “المسؤول عن الأمن في وزارة الأمن” (“ملماب”) بالقيام بهذه الـمَهَمّة خفيةً ودون إثارة ضجّة، على نحوِ ما سنرى لاحقًا”.
ويوضح محارب أنه لم يكن في الإمكان إخفاء عمليّة كبيرة بهذا الحجم؛ فقد تبيَّنَ شيئًا فشيئًا للعديد من الباحثين أنّ الكثير من الملفّات في الأرشيفات الإسرائيليّة المتعلّقة بحرب عام 1948 والنكبة الفلسطينيّة، التي كانت مفتوحة للباحثين والجمهور العامّ، قد أُعيد إغلاقها. فعلى سبيل المثال، ذكر الباحث الإسرائيليّ شاي حزقني في سنة 2013 أنّ الأرشيفات الإسرائيليّة أعادت إغلاق الملفّات المتعلّقة بالهجرة الفلسطينيّة في حرب عام 1948 التي كان المؤرّخون الجدد قد استعملوها في أبحاثهم، والتي تتحدّث عن طرد الفلسطينيّين في الحرب، وعن مجازر ووقائع اغتصاب نفّذها جنود إسرائيليّون، وعن أحداث أخرى حسّاسة اعتبرتها المؤسّسة الإسرائيليّة محرِجة لها. وفي سنة 2019، نشر معهد عكيـﭭـوت، بالتعاون مع صحيفة هآرتس، تقريرًا مفصّلًا عن هذه الظاهرة.
المصدر: القدس العربي
الرابط المختصر https://insanonline.net/?p=137792