مشغولات الخيزران في غزة..حرفة عريقة تقاوم الفناء

يُمرّر الفلسطيني أسامة المظلوم، قطعة من خشب الخيزران على شعلة متوهّجة من النار، ليتمكن من تشكيلها وفق مقاسات مُحددة، كي تدخل في صناعة كرسي خشبي بمظهر كلاسيكي جميل.

داخل مصنع للخيزران بمدينة غزة، يحاول المظلوم ثني تلك القطعة التي ارتفعت درجة حرارتها، باستخدام أداة خشبية يطلق عليها اسم “المَعدَلَة”، ليضعها بسرعة داخل وعاء بلاستيكي مملوء بالمياه من أجل تبريدها وضمان ثنيها.

وفور انتهائه من تشكيل كافة القطع الخاصة بصناعة الكرسي، ينشغل زميله الخمسيني جهاد علوان بتركيبها وتثبيتها مع بعضها البعض بطريقة مُتقنة باستخدام القش والدبابيس الحديدية الصغيرة.

ليتم أخيرا إضافة اللمسات النهائية عليها عبر طلائها باللون المناسب واللامع وتوفير المقاعد الاسفنجية إن لزم ذلك.

وتعتبر هذه الحرفة، من التراث الفلسطيني حيث بدأت منذ أكثر من قرن، وفق ما أفاد به عاملون في هذه المهنة وتقارير إعلامية.

واشتهرت مدينة غزة بصناعة الأثاث من أخشاب الخيزران المستوردة من الخارج، حيث تركّزت غالبية المصانع العاملة في هذا المجال بالمدينة.

وقالت وكالة الأنباء الفلسطينية الرسمية “وفا”، إن الفلسطينيين افتتحوا في مدينة غزة نحو 12 مصنعاً للخيزران، فيما ضمت بلدة بيت جالا في الضفة الغربية مصنعا واحدا.

ومع مرور الزمن، تقلّصت أعداد تلك المصانع، بحسب قول العاملين في المهنة، وذلك لعدة أسباب منها الأوضاع الاقتصادية المتردية في غزة والتي أثرت على القدرة الشرائية للمواطنين فضلا عن انتشار الأثاث البلاستيكي والعصري الذي نافس نظيره المصنوع من الخيزران، حيث توجّه مواطنون لاقتنائه.

“إرث الأجداد”

ويقول صاحب المصنع طارق خلف (48 عاما)، الذي ورث هذه الحرفة عن آبائه وأجداده، إن عائلته من الأسر القليلة التي ما زالت تحافظ على هذا الإرث العريق.

ويضيف خلف وهو حاصل على درجة البكالوريوس في الاقتصاد والعلوم الإدارية، في حديثه للأناضول، إنه يقدّم كل ما يلزم كي يحافظ على وجود مهنة الأجداد وصمودها أمام التغيّرات الاقتصادية والحياتية المستمرة.

وأوضح أنه التحق في هذه المهنة، منذ عشرات السنوات، حيث كان يقضي الأوقات التي يتفرّغ فيها من الدراسة، في تعلّم صناعة الأثاث بالخيزران.

ويستكمل قائلا: “كنت أطّور من نفسي دائما وأتعلم صناعة أنواع جديدة من الأثاث وأدخل عليها تعديلات بما يُضفي لها جودة مميزة وشكلا جميلا”.

ويذكر أن أجداده بدأوا بممارسة هذه الحرفة منذ عام 1929 حينما التحقوا بمدرسة للأيتام في مدينة القدس، وتعلّموا فيها عددا من الحرف اليدوية، وأتقنوا صناعة الخيزران.

وأشار إلى أن المدرسة قدّمت آنذاك دعما لهم للبدء بشكل فعلي في صناعة المشغولات من الخيزران كما وفّرت لهم كافة المواد الخام التي يحتاجونها خلال العمل.

ومع ازدياد العمل آنذاك، وصل الأثاث الخيزراني إلى مدن فلسطينية أُخرى ودول عربية كالسعودية، وفق قوله.

وجرّاء النكبة التي عاشها الفلسطينيون عام 1948، هاجر أجداد خلف وعائلته من مدينة يافا باتجاه قطاع غزة.

وعام 1948 اضطر نحو 800 ألف فلسطيني إلى مغادرة ديارهم، هربا من “مذابح ارتكبتها عصابات صهيونية”، أدت إلى مقتل نحو 15 ألف فلسطيني، بحسب تقرير حكومي فلسطيني.​​​​​​​

اعتقدت عائلة خلف في ذلك الوقت أن هذه الهجرة مؤقتة وستعود حيث منزلها ومهنتها، لكنها ومع طول فترة الانتظار عادت عام 1952 لصناعات الخيزران بافتتاح مصنع في مدينة غزة بدلا من الترقب بلا عمل.

ومن هنا بدأت رحلة العائلة في قطاع غزة، حيث ورّثت هذه المهنة لثلاثة أجيال، فيما ينقل الجيل الثالث أبجديات هذه الحرفة للجيل الرابع الشاب، على حدّ قول خلف.

صعوبات وتحديات

قال خلف إن عددا من التحديات تواجه صناعة الخيزران في قطاع غزة، جراء تردي الأوضاع الاقتصادية والأزمات العالمية.

وأضاف أن أخشاب الخيزران الطبيعية التي يستوردها من غابات شرق إفريقيا ويزيد عمر الخشبة الواحد منها عن 15- 20 عاما، تضاعف سعرها لنحو 3 أضعاف عما كان يستورده قبل أكثر من 10 سنوات.

وأوضح أن الارتفاع في الأسعار جاء من الدول المُصدّرة (لم يسمّها) وذلك لرغبتها في استغلال المواد الخام التي تنتجها لتشغيل الأيدي العاملة لديها.

واستكمل قائلا: “بدلا من تصدير المواد الخام والأخشاب الطبيعية، باتت هذه الدول تُصدّر المُنتجات المُصنّعة من الخيزران، بتشغيل الآلاف من الأيدي العاملة هناك”.

إضافة إلى ذلك، فإن الارتفاع العالمي في تكلفة الشحن والنقل ألقى بظلاله السلبية على تكلفة وصول هذه الأخشاب إلى القطاع.

ويقول خلف: “ارتفاع تكلفة الأخشاب يعني أن يرتفع ثمن المنتج النهائي على المواطن الذي يعاني أصلا من أوضاع اقتصادية صعبة”.

وأفاد أن المواطن بغزة كان يُقبل بشكل كبير على شراء المنتج قبل سنوات، إلا أنه بفعل الوضع الاقتصادي بات يُفضل اقتناء المنتجات البلاستيكية كبديل وذلك لانخفاض أسعارها.

كما يشكّل انقطاع التيار الكهربائي لأكثر من 8 ساعات يوميا معيقا آخرا أمام صناعة الخيزران، حيث يتوقف العمل داخل المصنع كونها تعتمد بشكل كبير على الطاقة.

إلى جانب ذلك، فإن الغاز يشكّل عنصرا أساسيا في هذه الصناعة فمع كل أزمة غاز واجهها القطاع، كان المصنع يتوقف عن العمل، وفق خلف.

ويقول إن الطاقة الإنتاجية الحالية للمصنع تصل لنحو 10- 12 بالمئة من إجمالي قدرته التشغيلية بسبب الأزمات المتراكمة، ما أدى لتسريح غالبية العمال والإبقاء على عدد قليل.

وبالرغم من تلك الأزمات إلا أن المصنع يواصل عمله في إنتاج الأثاث الخشبي بحيث يبيع بعضا منها لتجّار أو متاجر في الضفة الغربية وإسرائيل.

ويستكمل: “تصدير المنتجات للضفة الغربية تواجه أيضا تعقيدات بدءا من صعوبة الحصول على تصريح مرورا بالشروط الإسرائيلية الخاصة بخروج المنتجات من غزة وتكلفة النقل والشحن”.

​​​​​​​ويعرب خلف عن آماله في أن تولي الجهات المسؤولة بغزة “اهتماما بهذه الحرفة كونها تعدّ جزءا من التراث الفلسطيني الذي بدوره يمثل عنصرا جوهريا من الثقافة والهوية الفلسطينية”.

ويعاني قطاع غزة، حيث يعيش أكثر من مليوني فلسطيني، أوضاعا اقتصادية ومعيشية متردية للغاية، جراء حصار إسرائيلي متواصل لنحو 16 عاما.

وبحسب تقرير أصدره الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني (حكومي)، في مايو/ أيار الماضي، فإن نسبة البطالة في قطاع غزة بلغت 47 بالمئة.

المصدر: الأناضول