لا أحد يعرف بشكل دقيق كيف تتم رحلات “الهجرة غير الشرعية” التي يقوم بها شبان كثر من قطاع غزة، رغم مخاطر السفر والغرق والعودة جثة هامدة، إن نجت من البحر وأهواله، بدلاً من العيش في حياة آمنة اقتصادياً وبعيدة عن الحروب والدمار، لكن الجميع يدرك في غزة، أن السبب الأساس لهذه العملية الخطيرة، هو الاحتلال، وتبعات الانقسام المرير على الساحة الفلسطينية، والذي أوجد الحصار، وفاقم من معدلات الفقر والبطالة بشكل جنوني.
أسباب الهروب
في قطاع غزة، الشريط الساحلي ضيق المساحة، والمحاصر منذ 15 عاماً، من قبل إسرائيل، يتواجد أكثر من مليوني مواطن، عدد كبير منهم خريجو تخصصات مختلفة، من جامعات غزة المتعددة، ابتداءً من الأطباء والمهندسين بشتى التخصصات، مروراً بالتخصصات الفنية الأخرى والعلوم الإنسانية، وحتى التخصصات المهنية والفنية، علاوة على وجود آخرين مهرة في الكثير من الحرف.
لكن جل هؤلاء “قطاع الشباب” يعانون من ارتفاع خطير في معدلات البطالة التي تتفشى في أوساط الغزيين لتصل لأكثر من 50%، ومن العدد الإجمالي ترتفع النسبة وبشكل خطير في صفوف الخريجين لتفوق الـ 60%، ولتجعل أكثر من 75% من سكان القطاع يعانون من الفقر، بشقه المدقع، وتجعل من 80% من السكان المحاصرين يعتمدون على المساعدات الخارجية لتدبير أمور حياتهم، وهي أرقام تؤكدها الأمم المتحدة، التي تقول أيضاً، في تقرير لها صدر في يونيو الماضي، أنه بسبب الحصار والفقر ومعدلات البطالة المرتفعة، يحتاج العاملون في المجال الإنساني إلى 510 ملايين دولار لتوفير الغذاء والمياه والخدمات الصحية للسكان، في ظل توفر فقط 25 بالمائة من هذا المبلغ.
ومجمل هذه الأوضاع السيئة، التي تلقي بالشاب الخريج إما لطوابير البطالة، أو العمل بأجر زهيد جداً، وفي مهن حرفية بعيدة عن تخصصه، دفعت الكثير منهم للتفكير في “الهجرة غير الشرعية” لبلدان أوروبا، بعدما حدّثهم أقارب أو زملاء لهم تمكنوا سابقاً من الوصول إلى هناك، عن فرص العمل وتكوين المال، بعيدا عن عناء غزة.
فلك أن تتخيل أنه بسبب ندرة فرص العمل في القطاع المحاصر، أن وظيفة العمل في مخبز وبأجر زهيد، لاقت سابقا تقديم طلبات عمل من قبل مئات الشبان، بينهم خريجو شهادات جامعية عليا. وفي غزة ترى مهندساً في مجال الكمبيوتر يعمل سائق سيارة أجرة، وآخر كعامل في محل بيع، وخريجاً جامعياً آخر في مهنة جسدية لا تعتمد على تخصصه، وفي النهاية يعود بأجر مادي قليل لا يكفي أن ينشئ أسرة. ويقول شاب يعمل في أحد المخابز، وقد أنهى تعليمه المهني بعد الثانوية العامة، أن له زملاء خريجي جامعات، وأن أجره اليومي يساوي أجورهم، فصاحب العمل لا يفرق بين الشهادات، لكن ما يفجع هو الأجر اليومي، وهو عبارة عن 15 شيكلا، أي ما يقارب من أربعة دولارات، وهو أجر لا يكفي أن يفتح بيتاً، وينشئ أسرة، وقد لا يكفي شاباً أعزب إن كان مدخناً كثمن للسجائر يومياً.
وعلاوة على الأحوال المادية السيئة التي خلقها الحصار الإسرائيلي، الممتد منذ أكثر من 15 عاماً، وهو حصار أوقف فيه دخول العمال بحرية للعمل في إسرائيل، (سمح فقط منذ بداية العام، وبعد سنوات الحصار الطويلة بخروج نحو 17 ألف من رجال غزة للعمل هناك)، كما أجبرت إجراءاته العديد من الورش والمصانع على إغلاق أبوابها. عايش القطاع طوال السنوات الماضية، أربعة حروب إسرائيلية مدمرة، وعشرات التصعيدات العسكرية، التي أثقلت من الهموم الاقتصادية، وخلقت هاجس خوف شديد لدى المواطنين، من الموت، وهو ما دفع بخيار الهجرة للواجهة، وجعل الكثير من الشبان يطمح ويخطط لها، وآخرون كثر يراودهم التفكير، لكن قلة الأموال أوقفت أحلامهم، كما خلقت تلك الحروب نوعا آخر من الهجرة، تمثل بخروج عوائل بأكملها، تملك رأس المال، للاستثمار في أحد الدول الأجنبية أو العربية بحثا عن الأمان.
وجاء ذلك في ظل انعدام فرص نجاح جهود المصالحة بين الفصائل الفلسطينية، للتأسيس لمرحلة جديدة تنهي الحصار وتفتح الباب أمام نمو الاقتصاد، خاصة أن الحصار والحروب جاءت بعد خضوع غزة لسيطرة حماس في منتصف العام 2007، وبداية عهد الانقسام.
طرق الهجرة
“القدس العربي” استفسرت عن طرق الهجرة، وسألت شباناً يستعدون للخروج حين تصبح الفرصة مناسبة، وآخرين في القارة الأوروبية تمكنوا بعد جهد كبير من الوصول، رووا أهوالا خطيرة واجهوها في رحلة الوصول البحرية، لكن ظهر في حديثهم أن هناك ما يجري إخفاؤه، لكن أياً منهم لم يخف وجود “مافيا” تتولى الأمور بمجملها، تبدأ ترتيباتها إن أراد الشاب الخروج من غزة، وصولا إلى مركب الهجرة غير الشرعي، أو من لحظة وصوله إلى البلدان التي سينقل منها إلى أحد السواحل الأوروبية.
وتتكون طريق الهجرة هذه من شقين، أولها يكون عبر تركيا، وتتم بعد حصول الشاب الراغب في الهجرة على “فيزا” من هذا البلد، ويقول سامر، الشاب الذي حالفه الحظ بالوصول إلى اليونان أولا بعد تركيا، ومن ثم انتقل إلى أحد الدول الأوروبية الأخرى، أن رحلته بدأت بدفع مبلغ مالي للحصول على “فيزا” تركية، ومن ثم حجز تذاكر طيران من القاهرة إلى إسطنبول، وهناك قضى أسابيع عدة، حتى استدل على شبان يعملون في التهريب، ويقول إنه فاوضهم على التكلفة، وكشف بأنهم يعرضون على المهاجرين من غزة ومن دول عربية وأفريقية أخرى، تكلفتين، الأولى قليلة، عبر إخراجهم من تركيا لليونان من خلال طرق وعرة، أو مراكب قديمة أو صغيرة، تكون احتمالات غرقها مرتفعة، وأخرى مرتفعة التكاليف، يسلكون بها طرقاً أسرع ومراكب أفضل، بعيدة عن أعين الأمن الذي يحرس الحدود.
ويروي هذا الشاب قصة الهجرة، ويقول إنها فشلت في أول ثلاث مرات، ما اضطره إلى تغيير الوجهة، ودفع مبلغ مالي أكبر للوصول، ويشير إلى أن الرحلات الأولى أوقعته في إحدى المرات في أيدي الأمن، فتعرض للتعذيب والضرب والركل، علاوة عن إصابات في قدميه، بسبب المشي في مناطق جبلية، ونقل شهادات عن زملاء تعرف عليهم بعد فشل المحاولات الأولى، أخبروه عن عمليات التعذيب القاسية التي تعرضوا لها من قبل الأمن اليوناني خلال الهروب، والتي كانت سبباً بغرق الكثير من المهاجرين، خلال التصدي لعبورهم البحر، بطرق غير إنسانية.
مؤسسات حقوقية أكدت وجود سياسة أوروبية لجعل البحر المتوسط “مقبرة” لمن يفكر بالهجرة، ولا تبالي إن كان مصير المهاجرين الموت، بالاستعانة لما يعرف حاليا بـ “جيش الظل”، وهم عبارة عن أشخاص ملثمين، يواجهون المهاجرين ويلقون بهم في البحر، دون رأفة، وهم جهة ترتدي لباساً رسمياً، لكن دون أن تعترف بهم الحكومات الأوروبية، فيما تؤكد الكثير من الدلائل أن لهؤلاء علاقة وثيقة بالأمن اليوناني، ويروي المهاجرون كيف قام هؤلاء بسرقة مهاجرين، وألقوا بهم في البحر خلال رحلة إعادة المهاجرين من اليونان عنوة إلى تركيا.
ويشير سامر إلى أن هجرته جاءت بعد أن فقد الأمل في الحصول على عمل يدر مبلغاً مالياً جيداً، رغم حصوله على شهادة البكالوريوس من إحدى جامعات غزة، وانعدام فرصة عمله وفقاً لشهادته الجامعية، ويؤكد أنه وقع ضحية عصابة “مافيا” في رحلة تهريبه التي فشلت، كانت تعاملهم بعنف وتتعمد إهانة المهاجرين أثناء الرحلة.
يقول الباحث القانوني مصطفى ابراهيم إن ما يدفع بشبان غزة للهجرة، يعود لعدة أسباب، منها القصور وغياب المسؤولية القانونية والأخلاقية والإنسانية من المسؤولين وفقدان الأمل، بأن يعيشوا مستقبلاً أفضل، وأشار، في حديثه لـ “القدس العربي”، إلى واقع غزة المرير، التي تحاصر وتقصف، ما جعل المآسي تتراكم وتتسع، وتفتح يوميا جروح الألم.
ويؤكد أن الأوضاع المأساوية والبؤس في غزة، بسبب الحروب الإسرائيلية والحصار والانقسام الداخلي، هي ما دفع الشبان للهجرة من القطاع، إلى الخارج، وصولاً للدول الأوروبية بطرق غير شرعية، مشيراً إلى أنه خلال رحلات يتعرض الشبان فيها للموت.
قصص مؤلمة في الطريق
أحد الشبان، وهو لا يزال يقيم في اليونان، تحدث عن قصص أكثر إيلاماً، فروى أنه شاهد في المناطق الحدودية الحرجية مهاجرين قد أصيبوا بجروح بالغة إمّا من الطريق وأهوالها، أو من أفراد الأمن، بعضهم كان بمفرده ينتظر المساعدة، وآخرون برفقة عوائلهم، التي كانت تحاول مساعدتهم للوصول، ويشير إلى أن كثراً قضوا في تلك الطريق الصعبة، فيما آخرون قضوا غرقاً في المنطقة البحرية بين تركيا واليونان، بعد غرق ما يعرفها الفلسطينيون باسم “مراكب الموت”.
ويعتقد الشبان المقبلون على الهجرة أن إجادة السباحة أمر أساسي، فيما يقول من سبقهم في الرحلة أن مخاطر الغرق أو رمي الشبان في البحر من قبل المهربين على مقربة من الحدود، لا تفرق بين من يجيد السباحة أو يجهلها.
وفي المناطق الفلسطينية، وتحديدا في قطاع غزة، لم تقدم أي جهة رسمية أعداداً دقيقة لعدد الشبان أو العوائل التي هاجرت غزة، غير أن صحيفة “هآرتس” العبرية، أفادت بأن نحو 40 ألفاً هاجروا من قطاع غزة بين الأعوام 2014-2018 عبر معبر رفح، فيما ذكرت تقارير أخرى أن عدد المهاجرين الذين خرجوا من غزة تضاعف بين الأعوام 2018-2021 ليتخطى 70 ألف مواطن، وقد يكون العدد أكثر من ذلك، في ظل خروج صامت لعدد من الشبان، أو سفر البعض بداعي التعليم، وبداخله نوايا لعدم العودة من جديد إلى القطاع، حيث كانت هناك إحصائية سابقة لمركز الإحصاء الفلسطيني، وهو جهة رسمية، وأظهرت أن نحو 40% من الشبان الفلسطينيين يفكرون في الهجرة.
وبالعودة إلى رحلة الهجرة غير الشرعية، ففي تركيا يتعرف الشبان المغادرون غزة على المهربين إما في مناطق معروفة هناك، أو من خلال شبان موجودين في ذلك البلد قبلهم، أو زملاء أو أقارب أو جيران، خاضوا التجربة بنجاح، ومنهم من يكون يعرف وجهته قبل الخروج من غزة، غير أن الجميع يؤكد أن أحلام العيش بعيداً عن الحصار والقتل والحروب والبطالة، لا تساوي شيئاً، عندما يبدأ مركب الهجرة يمخر عباب البحر المظلم، حيث يمر بشكل سريع شريط ذكريات الغرق والموت، ويظل الهاجس قائماً حتى الوصول، وقد دفع بالكثير منهم إلى عدم إخبار عوائلهم بيوم المغادرة، خشية عليهم من القلق والتوتر.
وتكلف هذه الرحلة، حسب شاب خاضها، مبلغ “فيزا” تركيا، وتذكرة الطيران من القاهرة وإسطنبول، ومن قبل إصدار جواز سفر، وبعض التكاليف المادية في الطريق، وقدرها نحو 1000 دولار أمريكي، فيما يحتاج لمثل هذا المبلغ في تركيا حتى يرتب أمر خروجه، وأكثر منه بقليل للوصول إلى اليونان، ويقول الشاب سامر احتجت إلى نحو 4000 آلاف دولار حتى وصلت أثينا، ويشير إلى أنهم هناك يدفعون ضعف هذا المبلغ للوصول بشكل أقل خطراً وأكثر أمناً، ويقول هذا الشاب، أنه عرف بالمهربين عن طريق صديق له وصل قبله بعامين إلى أوروبا.
وهذا الشاب والكثير من أقرانه، اضطرت عوائلهم إلى بيع مصاغ ذهبي، أو قطعة أرض تملكها، أو وضع “تحويشة العمر”، أو الاستدانة من آخرين، على أمل وصول أنجالها إلى أوروبا، والعمل هناك، لسدادها، ما جعل حياة الكثيرين منهم تضيق أكثر، بعد فشل تجارب الهروب، وجعل حياة أسر كثيرة تنقلب إلى الظلام، بعد أن فقدت أبناءها غرقا خلال الهجرة غير الشرعية، وآخرهم سبع أسر تقطن جنوب قطاع غزة.
ويؤكد كثر ممن حالفهم الحظ بالوصول إلى دول أوروبية، أن جملة إجراءات وضعتها تلك الدول، حرمتهم من الحصول على الإقامة، وهو ما حرمهم من الحصول على موافقة لوصول زوجته وأبنائه، البعيد عنهم منذ أكثر من سبع سنوات.
وليست هذه هي الطريقة الوحيدة للخروج في رحلات الهجرة، فمثلا هناك شبان وصلوا إلى دول أوروبا الغنية، بعد محطة اليونان، سيراً على الأقدام، لعدم امتلاكهم الأموال اللازمة لدفعها للمهربين، خاصة أن هناك عصابات تهريب متواجدة في أثينا، تعمل على تسهيل سفرهم للخارج، عبر المطارات أو الطرق البرية، وقد روى بعضهم تفاصيل تلك الرحلة الخطرة، والتي ذاقوا خلالها ويلات التنقل في الأجواء الباردة، صعدوا خلالها جبالاً وقطعوا أودية وغابات، بعيدة عن أعين دوريات الشرطة في دول أوروبية عدة وهي مقدونيا وصربيا وكوسوفو والجبل الأسود والبوسنة والهرسك وكرواتيا سولوفينيا وإيطاليا، وصولًا لمحطته الأخيرة بلجيكا.
وكان من بين من قام بهذه التجربة الشاب عمر عبد الباقي، الذي نقلت تجربته “قناة الجزيرة”، رغم أن هذه الرحلات أزهقت أرواح شبان آخرين في أنهار أوروبا الباردة، حين عملوا على قطعها، مثل الشاب صلاح حمد من شمال غزة.
الهجرة عبر ليبيا وتونس
وإلى جانب هذه الهجرات عبر تركيا ومن ثم الوصول عبر حدودها مع أوروبا، عاد مؤخرا نشاط الهجرة غير الشرعية عبر مراكب تنقل المهاجرين من شواطئ تونسية أو ليبية إلى أوروبا، ورغم فشل غالبية هذه الهجرات، وغرق المراكب، وفقدان من فيها، ومن ضمنهم شبان كثر من غزة، لطول المسافة الفاصلة، إلا أن عدداً من الشبان يلجأون إلى هذه الطريقة، ويتردد أنها تتم من خلال الاتفاق مع المهرب قبل الخروج من غزة، ويقطع أول طرقها الشبان من خلال التوجه من غزة إلى مصر، ومن هناك يقصدون إما ليبيا أو تونس، ويستقلون مراكب قديمة ومتهالكة، لأحد الشواطئ الاوروبية.
وكان أكثر هذه الهجرات إيلاما غرق سبعة شبان من جنوب غزة في رحلة انطلقت من تونس، كونها أعادت للأذهان تلك الرحلات التي كانت تنطلق في البداية من شواطئ مصرية إلى أوروبا، والتي أوقفتها تماما سلطات القاهرة، بعد الكشف عن فقدان العشرات من سكان غزة في تلك الرحلات، عندما غرقت مراكبهم في وسط البحر المتوسط، ولم تصل إليهم أي سفن إنقاذ، إذ لا يزال مصيرهم مجهولاً، ولا تزال عوائلهم التي لا تزال تبكيهم، تعاني المرارة والحسرة، وتأمل أن يكونوا أحياء، لا أن يكونوا قد أصبحوا ولائم لأسماك القرش، وقد نظمت عوائلهم عدة وقفات أمام مقرات الأمم المتحدة، تطالب بالمساعدة في كشف مصير أبنائها.
ويوم الخميس، أعلنت وزارة الخارجية الفلسطينية، أن السفارة الفلسطينية في تونس تسلمت ثمانية جثامين تعود للشبان الذين غرقوا خلال رحلة الهجرة، والذين يطلق عليهم “شهداء لقمة العيش”، وهم من سكان قطاع غزة .
وتجدر الإشارة إلى أن ناجين من إحدى رحلات الهجرة السابقة، وهم قلة وصلوا بعد ضياع في البحر لأيام، إلى اليونان، قالو إن خلافاً بين مهربين في عرض البحر، دفع إحدى العصابات لتخريب مركبهم عمدا، وتركهم يغرقون، لكن وإن تعددت “قوارب الموت” وأماكن انطلاقها، سواء شواطئ عربية أو غربية، إلا أن نتيجتها واحدة، ففي البحر المالح لفظ الكثير من الشبان أنفاسهم الأخيرة، وأعينهم كانت ترقب لحظة وصولهم إلى أحد الشواطئ الأوروبية، وعقولهم كانت تخطط للحياة الجديدة المليئة بالعمل والكسب، بعيداً عن سنوات الفقر والبطالة والحصار.
وكانت والدة الشاب يونس الشاعر، أحد من قضوا على متن أحد مراكب الهجرة الغارقة قبالة سواحل ليبيا، قبل عدة أشهر، أشارت إلى أن سبب خروجه من القطاع كان “هرباً من سوء الأوضاع المعيشية”، وعدم توافر فرص عمل لعشرات الآلاف من الشبان والسكان، وقالت إنه خرج على أمل تأمين مستقبل أطفاله الأربعة، وقد أشارت إلى أنها حاولت منعه من السفر، لكن إصراره على الهجرة كان قوياً.
لكن بالمجمل، يقول من له خبرة في البحر إن حوادث غرق المراكب المخصصة للهجرة، الصغيرة، والتي لا تصلح للإبحار في مناطق عميقة، تزداد في هذه الأوقات، وتحديدا في فصل الشتاء، الذي ترتفع فيه الأمواج، التي تعاني منها حتى بعض المراكب الكبيرة.
ورغم هذه الأهوال، لا يزال شبان من غزة مصرين على الهجرة غير الشرعية، رغم تكاليفها المرتفعة، ويقول “محمد ج”، وهو أحد الشبان الذين وصلوا قبل ثلاثة أعوام لإحدى العواصم الأوروبية، أنه يخطط لأخذ شقيقه الأصغر، بعد إكمال دراسته الجامعية، وذلك من خلال توفير نفقات رحلة الهجرة، رغم أنه اشتكى من قسوة رحلته ومخاطرها، لكنه قال إن انعدام الحياة في غزة، لا يجعل له تفكيراً آخر، هذا الشاب المهاجر قال إنه دفع أكثر من ستة آلاف دولار حتى وصل إلى بلجيكا، وأنه تيقن مع بدء رحلة الخروج من تركيا أنه وقع بين يدي “مافيا تهريب” لا تعرف الرحمة، وهدفها المال فقط.
وكان من أكثر الرسائل التي تروي مخاطر الهجرة غير الشرعية إيلاماً، تلك الرسالة الصوتية التي بعثها الشاب يحيى بربخ لوالدته خلال غرق المركب وجاء فيها “يمّا (يا أمي) السمك أكلنا.. يمّا ساعتين وإحنا بنغرق.. الشباب ماتوا… يمّا إحنا بنموت”.
هل لإسرائيل دور؟
في غزة، لا يستبعد أن يكون لإسرائيل دور آخر في هجرة الشباب، بخلاف دورها الأساس الذي دفعهم لذلك، عبر البطالة والحروب، وذلك من خلال تسهيلات بعض عمليات الهجرة، والتي طالت بعض العقول وأصحاب التخصصات النادرة، وفي دلالة على ذلك، ذكر تقرير لهيئة البث الإسرائيلية، في شهر سبتمبر من العام 2019، ونقلت هيئة البث عن مصدر سياسي كبير في حاشية رئيس الحكومة آنذاك بنيامين نتنياهو، قوله إن إسرائيل سعت لتهجير سكان قطاع غزة من خلال فتح باب الهجرة الطوعية لهم، وأشار إلى أن إسرائيل مستعدة لتمويل رحلات الهجرة على أن تنطلق من مطارات سلاح الجو جنوب البلاد، ومن المحتمل أن يعود هذا الأمر، خاصة أن هناك تصريحات مماثلة لوزير الأمن القادم المتطرف إيتمار بن غفير، الذي قال مؤخرا، وفي سياق محادثات تشكيل حكومة اليمين المتطرفة، إنه يفكر في استحداث وزارة للهجرة، تكون مسؤوليتها إرسال الفلسطينيين إلى دول أوروبا التي ترغب بالأيدي العاملة، وفي المقابل جلب المزيد من اليهود، لـ “مقاومة التغييرات الديموغرافية”.
وكان الدكتور عدنان حسين عياش كتب في مقالة، نشرَها مركز دراسات الوحدة العربية، أن أسباب هذه الهجرة واسعة وخطيرة، وهي لا تقتصر على الأسباب السياسية والاجتماعية، بل تشمل مختلف جوانب الحياة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وبخاصة أنها تشمل هجرة الكفاءات من حملة الشهادات الجامعية العملية واليد العاملة، بما فيها الفنية والماهرة، لافتا إلى أن إسرائيل تشجع هذه الهجرة بالطبع، كونها “أحد مفاعيل سياسة الحصار والإغلاق والخنق الاقتصادي وسياسة مصادرة الأراضي والأنشطة الاستيطانية وتدمير البنى التحتية في القطاعين العام والخاص وسياسة بناء جدار الفصل العنصري ومحاصرة الفلسطينيين ودفعهم نحو هجرة تبدو في ظاهرها طوعية، ولكنها في حقيقتها وجوهرها هجرة قسرية”.
المصدر: القدس العربي
الرابط المختصر https://insanonline.net/?p=139262