لم تنتظر الدولة العبرية أياما أو حتى ساعات بعد انتهاء حرب عام 1967م والتي انتصرت فيها على الجيوش العربية مجتمعة؛ حتى قامت وبسرعة البرق الخاطف بهدم حارة المغاربة التاريخية التي تقع في جنوب شرق البلدة القديمة لمدينة القدس، بجوار حائط البراق.
هذه الحارة التاريخية التي كانت هدية الناصر صلاح الدين الأيوبي للمسلمين من سكان المغرب العربي الذين شاركوا في تحرير مدينة القدس واستعادتها من الإفرنجة خلال ساعات قليلة من انتهاء الحرب كانت أثرا بعد عين في مجزرة أثرية ومعمارية وإنسانية في المكان، وشمل ذلك 138 بناية، من بينها جامع البراق وجامع المغاربة والمدرسة الأفضلية والزاوية الفخرية ومقام الشيخ.. لإقامة ساحة لاستقبال مئات الآلاف من اليهود الذين جاؤوا لأداء الصلاة.
وقد حطت رحال المغاربة في مدينة القدس قبل 836 عاما تقريبا، حين طلب القائد صلاح الدين الأيوبي المدد من سلطان المغرب يعقوب المنصور، وتزويده بأساطيل بحرية لتسانده في تحرير مدينة القدس من الصليبيين، فجهّز سلطان المغرب أسطولا ضخما لمساندة الجيش الإسلامي في المشرق العربي، وكان ذلك عام 1187 للميلاد.
وبعد تحرير القدس كرّم صلاح الدين المجاهدين من بلاد المغرب العربي بإسكانهم في المدينة، وقال حينها: “أسكنت هنا من يثبتون في البر ويبطشون في البحر، وخير من يؤتمنون على المسجد الأقصى وعلى هذه المدينة”، بحسب العديد من الباحثين.
وقد وصف مجير الدين الحنبلي (ت 1495م) الحي بقوله: “حارة المغاربة هي بجوار سور المسجد من جهة الغرب ونسبها إلى المغاربة لكونها موقوفة عليهم وسكنهم بها”.
وأوضح الدكتور عبد اللطيف أبو هاشم، مدير دائرة المخطوطات والآثار في وزارة الأوقاف الفلسطينية أن الاحتلال لم يكتف بعملية الهدم بل طرد سكانها، وقد تم هذا الأمر لإيجاد فناء واسع للمصلين اليهود أمام الحائط الغربي للحرم الشريف “حائط المبكى”.
وأشار أبو هاشم في حديثه لـ “عربي21” إلى أن حي المغاربة هو وقف قديم ومهم جداً في مدينة القدس، وقد أزيلت معه مساجد وزاويتان وعدد كبير من دور السكن الموقوفة.
وأكد أن هدم الحي يعكس عجز إدارة الأوقاف والقيادة الدينية عجزاً تاماً عن مجابهة القوة العسكرية آنذاك، ويعكس افتقارهما إلى التنظيم في الفترة التي تلت الحرب مباشرة.
وشدد على أن قرار الهدم جاء في ضوء قرار دولة الاحتلال بتوسيع رقعة الاستيطان الصهيوني التقليدي لتشمل أجزاء من حارة المغاربة ويسميها “الحي اليهودي”.
وقال: “الهدم الذي كان فعالًا في حد ذاته كان يتماشى مع غيره من الأعمال التي نفذت لتأكيد سيادة الدولة العبرية (الكيان الغاصب) على المدينة المقدسة، ومنها الاستيلاء على الأراضي والأملاك لإحاطة مدينة القدس بضواح جديدة يقطنها إسرائيليون فقط، وإجراء حفريات أثرية، وحفر أنفاق على طول حائطي الحرم الجنوبي والغربي وإعادة تطوير الحي اليهودي”.
وأضاف: “كانت حارة المغاربة المكتظة بالسكان ملاصقة للحائط الغربي من الحرم الشريف، وكانت لقرون عديدة حياً ومجتمعاً محدودين بوضوح وكانت لها مكانتها الخاصة في القدس، وكان هذا الجزء من الحائط يعرف أيضاً بحائط البراق، وقد حظي المكان بأوقاف كثيرة قامت بإعالة المحتاجين واستقطبت العلماء والمعلمين الأتقياء”.
وأشار إلى أن أول الأوقاف في هذه الحارة كان الوقف الذي أقامه أحد أبناء صلاح الدين الأيوبي الأفضل نور الدين، الذي أوقف الحارة بأسرها، كما يذكر المؤرخ الإسلامي مجير الدين الحنبلي، وبنى مدرسة أصبحت تعرف بالمدرسة الأفضلية والوقفية واضحة تماماً في تحديدها لحدود هذه الحارة.
وأوضح أنه يوجد في حارة المغاربة وقفان آخران وهما وقف أحد أفراد عائلة أبي مدين المغربية الشهيرة الذي كان قد أوقف زاوية لمنفعة المغاربة الذين يسكنون الحارة، وأتبع ذلك الوقف بوقف أكثر شهرة هو وقف شعيب بن محمد بن شعيب الشهير بأبي مدين الغوث.
وقد ضم هذا الوقف بحسب أبو هاشم قرية عين كارم بأسرها، وهي قرية على تخوم القدس ومبان على طريق باب السلسة المحاذي لحارة المغاربة من الجهة الشمالية، وكانت هناك خانقاه أو زاوية تدعى الزاوية الفخرية، التي امتد جزء منها إلى الحرم ذاته، واستخدم مسجداً، وفي العهد العثماني، أصبح الجزء الذي كان قائماً في حارة المغاربة يستعمل مسكناً لعائلة أبو السعود المقدسية.
وحول حدود وقفية حارة المغاربة قال أبو هاشم: “إن مجير الدين الحنبلي أشار إلى أن حدود وقفية حارة المغاربة هي: إلى الجنوب حتى أسوار القدس وإلى الشرق حتى أسوار الحرم الشريف وإلى الشمال حتى قنطرة أم البنات، التي سميت فيما بعد (قنطرة الست) أي حتى باب السلسلة، وفي الغرب فقط ثمة شكوك في ما يتعلق بالحدود الصحيحة، إذ لا يذكر هنا سوى أسماء دور سكن أعيان معينين”.
وأضاف: “لقد دمر ما مجموعه 135 منزلاً، وطرد نحو 650 شخصاً، وكان من بين المباني المدمرة مسجد البراق والأفضلي الأثريان وزواياهما. أما الخانقة الفخرية الشهيرة، التي كانت تتكئ على الحائط الغربي للحرم، فقد دمرت بعد ذلك بعامين من خلال أعمال حفر أثرية إسرائيلية في المنطقة”.
وأوضح أنه كان من الأملاك التي تم مصادرتها 12 ملكاً تابعاً لإدارة الأوقاف كانت ثلاثة منها تابعة لوقف مسجد المحارب، و99 ملكاً تابعاً لوقف أبي مدين الغوث.
وأكد أنه بعد تدمير الحارة، لم تكن أية وزارة إسرائيلية مستعدة لتحمل المسؤولية ولم تجر أية محاولة لتوفير مساكن بديلة للسكان المطرودين.
ويعود تاريخ حارة المغاربة بحسب الدكتور إبراهيم أبو اعمر الأستاذ المشارك بالمعهد العالي للأثار في جامعة القدس، والمتخصص في الآثار الإسلامية؛ إلى فترات تاريخية مختلفة أهمها الفترة الأيوبية ـ حيث تم وقفها من قبل الملك الأفضل ابن صلاح الدين سنة 589 هجري على المغاربة الذين شاركوا في تحرير فلسطين والمسجد الأقصى ـ والمملوكية والعثمانية.
وقال أبو اعمر لـ “عربي21”: “من أهم الأبنية العمرانية التي كانت موجودة بحارة المغاربة هي الجامع الذي يقع بالقرب من باب المغاربة والزاوية الفخرية، غير أن هذين المبنيين تم هدمهما في عام 1969م، كذلك ومن أشهر الأبنية الدارسة بحارة المغاربة أيضا المدرسة الافضبية التي كانت تقع في الجهة الشرقية من الحارة، وتعود للفترة الأيوبية 589 هجري”.
وأشار إلى أن الطرز العمرانية الذي يعود إلى هذه الحقب التاريخية والتي لا تختلف عن الأبنية الأيوبية والمملوكية والعثمانية موجودة في البلدة القديمة والتي لا تزال أجزاء منها قائمة إلى يومنا هذا.
وأوضح أبو اعمر أن الاحتلال الإسرائيلي قام ومنذ اللحظة الأولى على تغيير الطابع العمراني لحارة المغاربة، حيث قامت قوات الاحتلال الإسرائيلي بعد احتلالهم للمدينة بإخطار الناس المقيمين في الحي بإخلائه بالقوة وبشكل فوري، لدرجة أنه وحسب شهود العيان أن البعض من السكان بقوا تحت الأنقاض لعدم تمكنهم من الخروج من بيوتهم.
وقال: “تم هدم الحارة في 10 حزيران عام 1967م، حيث قامت قوات الاحتلال الإسرائيلي بتدمير 138 مبنى أثري، حيث سوت جميعها بالأرض بحلول مساء يوم 11 حزيران 1967م. وهذه البيوت تعود في ملكيتها لوقف أبي ميدين الغيث”.
وشدد على أنه تم هدم الأبنية العمرانية في حارة المغاربة لم يتبق منها أي شيء فقد تم هدمها بشكل كامل من قبل الإسرائيليين.
اما في ما يخص سكان هذه الحارة فقد كانت تسكنها قبل عملية الهدم حسب أبو اعمر 197 عائلة، تشكل ما يعادل 1500 نسمة، لا يزال منهم في فلسطين 400 نسمة، جزء منهم يعيش في مخيم شعفاط للاجئين الفلسطينيين واماكن اخرى في فلسطين، والجزء المتبقي نزح الى الاردن والمملكة المغربية.
أشار أبو اعمر إلى أن مدينة القدس تم تأجيل التفاوض عليها بين منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية إبان عقد اتفاق أوسلو عام 1993م إلى الوضع النهائي، ولا يوجد أي دور لوزارة السياحة والآثار الفلسطينية في المدينة المقدسة.
ونوه إلى وجود المؤسسات الفلسطينية التي تعنى بالحفاظ على التراث الثقافي الفلسطيني والتي تعمل بين الحين والاخر على ترميم بعض الابنية القديمة في مدينة القدس.
ومن جهته قال الدكتور ناصر هدمي، رئيس الهيئة المقدسية لمناهضة التهويد: “إن لاحتلال الإسرائيلي أدرك منذ زمن أهمية الاماكن المقدسة في مدينه القدس بالذات وفي كل فلسطين بشكل عام بالنسبة للعرب والمسلمين في كل العالم، لذلك كثف من الاعتداء عليها بشكل متواصل، ودون توقف”.
وأضاف هدمي لـ “عربي21”: “الاحتلال الإسرائيلي رأى أن المسجد الأقصى المبارك وحد الشعب الفلسطيني بكافة أماكن تواجده واطيافه، ووحد كذلك الأمة العربية والإسلامية في وجه الاعتداءات عليه، بعد أن أثارت الرأي العام العربي بشكل كبير ورأينا شوارع مدن الدول العربية تثور وتنتفض نصرة للمسجد الأقصى المبارك”.
وأوضح أن المسجد الأقصى المبارك أصبح عنصراً مهماً في هوية كل فلسطيني بل كل مسلم جميعا على وجه الأرض، هذه الهوية التي اكتسبها الفلسطيني عبر دفاعه عن المسجد الاقصى المبارك عبر انتمائه إلى الأرض التي باركها الله عز وجل حول المسجد الأقصى المبارك فكان هذا العنصر عاملا موحدا، وعاملا مهما بالنسبة للشعب الفلسطيني بعمومه وظهرت مكامن القوة في هذه القضية.
وضرب هدمي مثلا معركة “سيف القدس” في أيار/ مايو 2021م وذلك حينما اجتمعت فيها كل عناصر القوه لدى أبناء الشعب الفلسطيني في مواجهه اعتداءات الاحتلال على المقدسات وعلى المسجد الأقصى المبارك.
واعتبر أن مواجهة الاحتلال لاستهداف المسجد الاقصى المبارك بشكل كبير ومن كافه الجهات وبكافة السبل لا يكون إلا من خلال وحدة الشعب الفلسطيني.
وقال هدمي: “وحده الشعب الفلسطيني شكل عائقا أمام سلطات الاحتلال فكانت هذه الوحدة التي عبر عنها الشعب الفلسطيني في مدينة القدس وفي كل فلسطين هي أكبر رادع للاحتلال وأكبر مهدد للاحتلال لأنه بات يعي تماما أنه إذا فقد السيطرة على الأمن في الضفة الغربية بعد أن يفقدها في مدينة القدس فإن زمام الأمور سيفلت منه، معتبرا مدينة القدس الصاعق المفجر دائما في كل المواجهات التي حصلت بين الاحتلال والشعب الفلسطيني”.
وتابع: “إذا فقد الاحتلال السيطرة الأمنية على الضفة الغربية وأصبحت طرقاتها وشوارعها غير آمنة على المستوطنين الذين هم أكثر ما يغذي الاعتداءات على المسجد الأقصى المبارك وعلى الشعب الفلسطيني فكريا وأيديولوجيا وماليا”.
واعتبر هدمي وحدة الشعب الفلسطيني هي بالدرجة الأولى أكبر وأهم الطرق في مواجهة سياسات الاحتلال، يليها في الدرجة الثانية الرباط في المسجد الأقصى.
وقال: “ما نراه من الرباط في المسجد الأقصى المبارك من قبل أهل مدينة القدس، ومن قبل كل من يستطيع أن يصل إلى المدينة المقدسة؛ فإن هذا الرباط على الرغم من أن الأعداد قلت كثيرا إلا أنه ما زال يشكل عائقا كبيرا للاحتلال في تنفيذ مخططاته التهويدية.
وأشار إلى أن شد الرحال والرباط في المسجد الأقصى تعبير عن رفض الشعب الفلسطيني لاعتداءات الاحتلال الإسرائيلي على المسجد الأقصى المبارك ولحمايته، لينذر الاحتلال أن هذا صاعق مفجر حتى تنفجر الأمور في وجه الاحتلال.
وقال هدمي: “الرباط في المسجد الأقصى المبارك وحد الشعب الفلسطيني في وجه الاحتلال”.
وأضاف: “يجب أن يعي أبناء الشعب الفلسطيني الذين هم خارج حدود مدينة القدس ولم يستطيعوا أن يصلوا إليها وإلى المسجد الأقصى المبارك، وحتى أهل مدينة القدس أنفسهم الذين لا يستطيعون أن يصلوا إلى المسجد الاقصى المبارك بسبب الحواجز وبسبب إغلاقات سلطات الاحتلال ومنعهم من الوصول، أن دورهم لا ينتهي عند هذا الأمر وأن عليهم دورا كبيرا في القدس وفي كل مكان، عندها يعي الاحتلال أن القضية أكبر من مواجهه مع فقط أبناء مدينة القدس أو حتى أبناء الشعب الفلسطيني وأن القضية ستكون أوسع بكثير مما يتخيل”.
وتابع: “هذه العناصر (الوحدة، الرباط، الحشد) هي أهم ما يمكن استخدامه من أجل مواجهة الاحتلال والحد من إجرامه بحق مقدسات الشعب الفلسطيني، بالذات في مدينة القدس والمسجد الأقصى المبارك.
المصدر: عربي21
الرابط المختصر https://insanonline.net/?p=139578