بقلم: الدكتور عصام يوسف – رئيس الهيئة الشعبية العالمية لدعم فلسطين
تّقاس درجة فاعلية و”ديناميكية” المنجز الخيري بحجم تأثيره على الأرض، وسعة شموله لأكبر عدد من المستفيدين، ونجاحه في تحقيق أهدافه الإغاثية والتنموية في المجتمع، بما يشتمل على ديمومة أثره، وتحقيقه لغاية الاستمرارية لصالح المستهدفين منه.
ولتحقيق الديمومة والاستمرارية لا بد من أن يتسم العمل الخيري، أو المشروع الإنساني المراد طرحه أو تنفيذه على الأرض، بالـ”المشروع التنموي” أو “التمكيني”، بحيث ينهض بالفئة المستهدفة بما يحقق كفايتهم وإعالتهم لأنفسهم، وبما ينعكس بالتالي على مجتمعهم بالأثر الإيجابي بالطريقة التي يدخل فيها ضمن أدوات ووسائل الانتاج الفردي والجماعي، ومن ثم إلى جانب الدخل القومي للدولة.
وتقوم فكرة العمل الخيري التنموي على أساس الحديث النبوي الشريف “والذي نَفْسِي بيَدِهِ، لَأَنْ يَأْخُذَ أحَدُكُمْ حَبْلَه، فيَحْتَطِبَ علَى ظَهْرِه؛ خَيْرٌ له مِن أنْ يَأْتيَ رَجُلًا، فيَسْأَلَه، أعْطاهُ أوْ مَنَعَه”، ما يؤكد على أن تأهيل الفرد وتمكينه من إعالة نفسه وأسرته، له الأثر الأعظم في حياة الأفراد وازدهار المجتمعات، وبالتالي لا بد أن ينال الثواب الأعظم، وفي ذلك يقول الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم): “سَدِّدوا وقارِبوا واعلموا أنه لن يُدخِلَ أحدَكم عملُه الجنَّةَ وأنَّ أحبَّ الأعمالِ إلى الله أدومُها وإن قَلَّ”، حيث أن من الصواب اختيار عمل الخير الذي يدوم، ليتنامى ويزدهر وتعم فائدته بالسعة الأكبر من البشر والمخلوقات، لتأتي عمارة الكون كمحصلة إجمالية لذلك.
ولعلنا ونحن نعيش روحانيات شهر رمضان الفضيل، حيث يتسابق المسلمون في أرجاء المعمورة إلى بذل المزيد من أعمال الخير، والاستزادة من أعمال البر والإحسان، لنيل الثواب والأجر العظيم، نستلهم أشكال وأسباب العطاء الأفضل، والأكثر سداداً، واستدامة، من خلال إخراج زكاة الأموال، والصدقات، لتصب في روافد نهر الخير الدائم الجريان، والذي يتدفق في صالح الأمة، كما تتدفق الدماء في العروق والشرايين، لتمد الجسد بالحياة.
وفي سياق الروحانيات، يروي لنا تاريخنا الإسلامي من قصص التآخي بين المهاجرين والأنصار، ما نستوحي منه أصول العفة والاعتماد على الذات في كسب الرزق، والابتعاد عن الاتكال على الغير، بغية حفظ الكرامة، وعدم إراقة ماء الوجه، حيث يروي الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف (رضي الله عنه)، قائلاً: لَمَّا قَدِمْنا المَدِينَةَ آخَى رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بَيْنِي وبيْنَ سَعْدِ بنِ الرَّبِيعِ، فقالَ سَعْدُ بنُ الرَّبِيعِ: إنِّي أكْثَرُ الأنْصارِ مالًا، فأَقْسِمُ لكَ نِصْفَ مالِي، وانْظُرْ أيَّ زَوْجَتَيَّ هَوِيتَ نَزَلْتُ لكَ عَنْها، فإذا حَلَّتْ تَزَوَّجْتَها. قالَ: فقالَ له عبدُ الرَّحْمَنِ: لا حاجَةَ لي في ذلكَ، هلْ مِن سُوقٍ فيه تِجارَةٌ؟ قالَ: سُوقُ قَيْنُقاعٍ. قالَ: فَغَدا إلَيْهِ عبدُ الرَّحْمَنِ، فأتَى بأَقِطٍ وسَمْنٍ، قالَ: ثُمَّ تابَعَ الغُدُوَّ، فَما لَبِثَ أنْ جاءَ عبدُ الرَّحْمَنِ عليه أثَرُ صُفْرَةٍ، فقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: تَزَوَّجْتَ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: ومَنْ؟ قالَ: امْرَأَةً مِنَ الأنْصارِ، قالَ: كَمْ سُقْتَ؟ قالَ: زِنَةَ نَواةٍ مِن ذَهَبٍ -أوْ نَواةً مِن ذَهَبٍ-، فقالَ له النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أوْلِمْ ولو بِشاةٍ.
وفي وقتنا الحاضر، تتعاظم فضاءات التمكين، وتتسع مجالات المشاريع التنموية لتشمل على سبيل المثال: بناء المستشفيات، والمدارس، والإسكانات، وتأهيل الأراضي الزراعية، والبنى التحتية من مياه وكهرباء وطرق، وغيرها من الأمثلة، ومع أن في الحالة العربية والفلسطينية تكون الحاجة لكل ما ذكر من أمثلة، إلّا أن مشاريع تشغيل وتأهيل الخريجين من شباب العرب وفلسطين تتقدم على كل المشاريع، نظراً لارتفاع حجم البطالة في بلداننا، حيث تم تقديرها بأنها الأعلى على مستوى العالم.
وللوضع الفلسطيني خصوصيته، بسبب وجود الاحتلال الذي حرم نتيجة انتهاكاته المستمرة أبناء الشعب الفلسطيني من الحياة بشكل طبيعي واعتيادي كباقي البشر، بل حارب على مدى عقود من الزمن كل ما هو فلسطيني، كما ساقه إجرامه إلى محاربة الفلسطيني في لقمة عيشه، ولا أدل على ذلك من تقصّد الاحتلال تدمير مصادر أرزاق الفلسطينيين كتجريف الأرض الزراعية، وسرقة ثمار الزيتون، والتنغيص على التجار بالضرائب الباهظة، وبناء الجدار العازل في الضفة الغربية الذي قطّع أوصال العائلات ومنع المزارعين والعمال من الوصول لأراضيهم وأعمالهم، وفوق هذا وذاك فرضه حصار جائر على قطاع غزة، ما يزال مستمراً منذ 16 عام، أدى إلى خلق مأساة إنسانية، تمثلت في تجويع الغزيين، وحرمان مرضاهم من العلاج، والعمل على تدمير مستقبل شبابهم، وسد أية آفاق أمام الحياة والتطور والنماء.
ولعل وصول نسب البطالة بين شباب قطاع غزة إلى ما يزيد عن نسبة 55% مدعاة للتفكير ملياً بتغليب دور المشاريع التنموية المدروسة، والدارسة لواقع غزة، وتحقيق الجدوى من إنجاح مشاريع التشغيل للشباب، وتقديمها على المشاريع الإغاثية، رغم أهميتها، وبمعنى أدق فإن الضرورة تشير إلى أهمية المزاوجة بين شقي العمل الخيري (الإغاثي والتنموي)، مع إعطاء اعتبارات أكبر للجانب التنموي في هذه المرحلة، وفق خطط شاملة ومتكاملة يتم تطويرها في هذا الإطار بهدف توجيه الدعم والمساعدات، سواء أكانت من الجمعيات الخيرية أو المنظمات الدولية، وذلك بهدف تحقيق الاستفادة الأكبر للشعب الفلسطيني، إلى جانب الفائدة ذات الاستدامة والاستمرارية.
ومن شأن وضع الخطط الشاملة والمتكاملة التي تصب في صالح بناء منظومة تنموية في قطاع غزة بشكل أساس، وفي مخيمات الشتات، وفي القدس والضفة الغربية، أن تشجع الجهات المانحة والمؤسسات الدولية على وجه الخصوص، إلى جانب الجمعيات الخيرية المختلفة، من أجل رصد المخصصات الموجّهة لإنجاز مشاريع تنموية بعينها، وسحب ذرائع عدم توفر شروط الشفافية، والضبابية حول الجهات المستفيدة من الدعم، كما يضمن نجاعة دعم الشرائح المستهدفة، وتحريك عجلة الاقتصاد، ويوفر ضمانة استفادة كافة القطاعات من العملية التنموية برمتها.
كما يتوجب على المؤسسات الحكومية أن تركز في عرض احتياجاتها على المشاريع التنموية، ورصد المخصصات المالية من جانب المؤسسات المانحة لها، والتأكيد على هذه المؤسسات بأن المطلوب بشكل أساسي دعم مشاريع التنمية المستدامة التي تعود بالفائدة على كافة القطاعات الاقتصادية، بما يخدم الأفراد والمجتمع في آن واحد، وبما من شأنه أن يقلل من الاعتماد على الخارج على المديين المتوسط والبعيد.
ويمكن الاشارة إلى عدد من المشاريع النوعية التي تسهم في تقليل معدلات البطالة، كتقديم القروض الصغيرة لأصحاب المهن من الشباب، ودعم برامج تشغيل الخريجين وبناء القدرات، ودعم برامج التشغيل الذاتي عبر الانترنت، ودعم مشاريع خلق فرص العمل للشابات والشباب في المجالات المهنية والتقنية، ودعم مشاريع ريادة الأعمال والتشغيل الذاتي بشقيه المؤقت والدائم..وغير ذلك من المشاريع.
تحتاج الأراضي الفلسطينية (قطاع غزة، والقدس والضفة الغربية)، إضافة لمخيمات الشتات، التي تسجل أرقاماً غير مسبوقة من حجم البطالة على المستوى العربي والدولي، إلى جانب تراجع بناها التحتية، والفوقية، إلى خطط متوازنة وشاملة، تبدو ككفتي ميزان، في إحدى الكفتين تحمل البرامج والخطط الشاملة والمتكاملة لانجاز تنمية مستدامة وحقيقية، وفي الكفة الأخرى مؤسسات دولية مانحة وجمعيات خيرية تتفهم وتواكب حاجة الفلسطينيين لتلك البرامج والمشاريع، وتفتح أمامهم آفاق الانعتاق من نير الاحتلال، والارتهان للمساعدات ذات الأثر المؤقت واللحظي، وصولاً لغايات النهوض والازدهار، وبالتالي الاعتماد على الذات كلبنة أساسية في طريق التحرر من الاحتلال، وبناء الاستقلالية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
الرابط المختصر https://insanonline.net/?p=141088