بقلم: نزار السهلي
الحراك الإقليمي والعربي في الآونة الأخيرة، للبحث عن تقارب في العلاقات السياسية العربية مع طهران بعد المصالحة السعودية الإيرانية برعاية صينية، فتح ثغرات عربية وإقليمية كانت موصدة في وجه النظام السوري بعد الزلزال الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا. ومع استنفار بعض الدبلوماسية العربية لتطبيع علاقتها مع نظام الأسد برعاية روسية وإيرانية، تحرك المناخ السياسي العربي والإقليمي وفق رؤية احتواء “توتير الأوضاع”، أو ما يصح قوله محاصرة آخر ما تبقى من آثار للربيع العربي في سوريا واليمن ومصر وتونس وليبيا والعراق وغيرها من الدول التي سجلت فيها الثورات المضادة انتصارها الدموي.
الدبلوماسية العربية والإقليمية والدولية النشطة من موسكو وبكين إلى الجزائر مروراً بالرياض وأبو ظبي وبقية العواصم، ترتكز على قواعد تثبيت هدوء يحفظ مواقع الاستبداد وحكم العسكر في العالم العربي، وهي من أبرز محطات الحراك الدبلوماسي الغربي والأمريكي المتقاطعة معها، بعد تثبيت قواعد عربية وغربية من الهدف المنسوب للربيع العربي ووسمه بـ”الإرهاب”.
لم تقلل هذه الدبلوماسية من حشو مشاعر البيانات المتكررة بما يخص قضية فلسطين، التي تواجه تعاظم المخاطر بوجود حكومة إسرائيلية فاشية وعنصرية، وهنا يُطرح السؤال عن غياب قوة النشاط الدبلوماسي والمعنوي والمادي لدعم الشعب الفلسطيني في مواجهته للعدوان، فلم يسجل في العقد الأخير على سبيل الحصر موقف صيني أو روسي، بنفس القوة التي ظهرا بها في مجلس الأمن لدعم وتثبيت الاستبداد العربي ودعمه مادياً وعسكرياً ودبلوماسياً، ولم تظهر مواقف عربية بنفس الحماس والابتهاج من الاحتفاء بتطبيع العلاقة مع نظام الأسد ومؤازرة الثورات المضادة، في موازاة اتخاذ مواقف عربية مخزية أمام العدوان الاسرائيلي المستمر على الشعب الفلسطيني، فكانت عملية إشهار الاحتفاء والتضخيم الرسمي بالتطبيع العربي الاسرائيلي مترافقة مع حملة تشهير كبرى بالقضية الفلسطينية وضحاياها بعد أثناء وبعد توقيع “اتفاقات أبراهام” برعاية أمريكية.
بكل الأحوال، وفق الآفاق التي كان يُنَظر إليها عربياً من قضية فلسطين، وقضايا عربية أخرى في العقد الأخير، بدأ الواقع العربي يكتسب أبعاداً فوق قمعية من دمشق والقاهرة إلى تونس والخرطوم وأبو ظبي والمنامة، أثر في التخفيف من شدة العداء للمشروع الاستعماري الصهيوني، ودفعه لتشديد عدوانه وسيطرته على الأرض، وهي سمة تجعل من التعويل على أنظمة عربية كانت تصدح بشعارات كبرى عن القضية الفلسطينية، وكأنها خارج سياق التاريخ.
وقد يكون لتعميم نموذج التطبيع الحاصل بشقيه البيني بين أنظمة الاستبداد العربي من جهة، وبينها وبين المؤسسة الصهيونية من جهة أخرى، الأثر الأبرز على مستقبل وآفاق القضية الفلسطينية، حيث إن الرهان على أنظمة عربية استقرت أوضاعها ببسط القمع والوحشية، ليكون لها دور في قضية تحرر الشعب الفلسطيني هو استمرار لخداع الذات. وهنا تبرز الأهمية القصوى للعامل الذاتي الذي أُهملَ فلسطينياً من سلطة وفصائل ومنظمة، واستبدل بالرهان على محاور عربية وإقليمية، هدفها إنقاذ نفسها بالتطبيع مع المحتل.
التدقيق في الإجماع الدبلوماسي العربي، المنفتح على الاستبداد والمنشط للقمع، يُظهر أن جل أنظمته مُطبع مع الاحتلال أو في طريقه بالسر والعلن لنفس الغاية، والجهود العربية المتعلقة بفلسطين ودعمها محصورة كما أسلفنا بما اعتاد أن يقتات عليه الخطاب العربي الرسمي نحو فلسطين منذ أمد بعيد.
فأقصى ما يمكن أن يقدمه الدعم العربي لفلسطين، إما مطالبة “الأطراف” بعدم التصعيد ودعوة الاحتلال لاحترام القرارات الدولية، أو أن تكون الدبلوماسية العربية الأمنية وسيطة بانحيازها للمحتل. وإذا أخذنا مسألة حصار غزة على سبيل المثال والموقف المصري منها، فإنه منفذ حرفي لسياسة الاحتلال وإملاءاته، أما حصار الضفة واقتحام المسجد الأقصى وتدنيسه، فيرمى في وجهه بيان شجب وإدانة، والدعوة للتهدئة، ومطالبة إسرائيل بالالتزام بالقرارات الدولية والكف عن سياسة التسويف والتمسك بالمبادرة العربية للسلام.
مع أن هذه الكليشة من المواقف المتمسكة بالمبادرة العربية للسلام، رد عليها الاحتلال من لحظة إصدارها قبل عقدين بإعادة احتلال مدن الضفة وتوسيع الاستيطان، بل زاد عليها تحلله من اتفاق أوسلو” وزيادة منسوب القمع والإرهاب الصهيوني المستمر إلى اليوم لكن دون فهم وإدراك عربي وفلسطيني أن إصرار الاحتلال على التمسك بلاءات صهيونية؛ “لا شبر من الأرض ولا دولة وكيان فلسطيني مع القدس” لم يتغير على الأرض، المتغير هنا النظر للشعب الفلسطيني على أنه هو المشكلة في متابعة نضاله ومقاومته لمشاريع شطب حقوقه، مشكلة لطالما أرّقت حسابات النظام الرسمي العربي وتسبب له غيظا مكتوما يعبر عنها في تشديد الحصار على الشعب الفلسطيني.
أخيراً، الأجواء العربية التي تحمل “بشائر” خلاص الاستبداد من أزمته، بطمس الوقائع وابتعادها أكثر عن عمق القضايا الأساسية التي تهم المواطن العربي، إن كان في حريته وإنسانيته ومواطنته وتنميته، أو في قضيته المركزية فلسطين، لصالح أجندات الحاكم العربي. وهي فشلت في الماضي، وإعادة سطوة الاستبداد المتصالح مع بعضه ومع الاحتلال لن تكون بهذا القدر من البساطة بالمضي على نفس الطريق الذي تكون فيه إسرائيل والاستبداد سيفاً مسلطاً على رقاب المجتمعات العربية، لأن كل ذلك يضيف بنداً جديداً لمحاذير الطريق المتفجر أصلاً ويجيب على سؤال: هل من أفق لقضية فلسطين بعد التطبيع؟ بعد إظهار انفراجة عربية ثابتة على باطل ترسيخ الاحتلال والاستبداد، مع أنه مُجرب منذ النكبة، وتسيّد القمع أفضى لانهيارات عربية.
باختصار، ليس ثمة من أفق لقضية فلسطين وحال الديكتاتوريات العربية أكثر التصاقاً بكرسي الحكم والمحتل.
الرابط المختصر https://insanonline.net/?p=141109