بقلم: زياد أبو زياد
أثار الفيديو الذي تضمن بيانا ً أدلت به أورسولا جيرترود فون دير لاين رئيسة المفوضية الأوروبية، بمناسبة احتفال إسرائيل بمرور 75 عاما على إقامتها، ونشر على موقع مكتب الاتحاد الأوروبي في تل أبيب، ردود فعل غاضبة وبيانات إدانة واستنكار من قبل وزارة الخارجية الفلسطينية ومختلف القيادات والفصائل والدوائر والأطر الفلسطينية لتحيزه السافر لإسرائيل وإنكاره للنكبة، ومعاداته للشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية، وتضمنه وتبنيه للمغالطات والأكاذيب التي تروجها الدعاية الصهيونية.
وقبل البحث في أسباب تراجع الدعم الدولي للقضية الفلسطينية وخاصة في أوروبا والذي جاء على خلفيته بيان أورسولا الذي يُفترض أن يمثل موقفا أوروبيا رسميا بسبب الصفة الرسمية التي تمثلها، لنتوقف قليلا ً عند ما ورد فيه ومناقشته بموضوعية.
تقول أورسولا:
“عزيزي الرئيس هيرتسوغ، أصدقائي الأعزاء. قبل 75 عاما تحقق حلم استقلال إسرائيل، بعد أكبر مأساة في تاريخ البشرية. فقد تمكن الشعب اليهودي أخيرًا من بناء بيته في أرض الميعاد. ونحن نحتفل اليوم ب 75 عامًا من الديمقراطية النابضة بالحياة في قلب الشرق الأوسط، ب 75 عامًا من الديناميكية، الإبداع والابتكارات الرائدة.
“لقد جعلتم الصحراء تزهر بالمعنى الحرفي لهذه الكلمة كما رأيت بنفسي خلال زيارتي للنقب العام الماضي. واليوم نحتفل أيضا ً ب 75 عامًا من الصداقة بين إسرائيل وأوروبا. ونحن لدينا قواسم مشتركة أكثر مما قد توحي به الجغرافيا، ثقافتنا المشتركة، قيمنا، ومئات الآلاف من المواطنين ذوي الجنسية المزدوجة من الإسرائيليين-الأوروبيين الذين بنوا علاقة عميقة بيننا. لا بد أن تكون أوروبا وإسرائيل أصدقاء وحلفاء. حريتكم هي حريتنا. عيد ميلاد سعيد لجميع شعب إسرائيل.”
(واختتمت كلمتها بالقول بالعبرية: “يوم هوليدت ساميخ” أي “عيد ميلاد سعيد”.
ولكي نعطي الأمر حقه من الأهمية لا بد من التنويه بأن أورسولا فون دير لاين هي شخصية سياسية ألمانية عريقة من الحزب المسيحي الديمقراطي، وكانت أول امرأة تتولى منصب وزير الدفاع في ألمانيا الى جانب تولي عدة مناصب رفيعة متعاقبة خلال الفترة من 2005 – 2019 في عهد حكومة أنجيلا ميركل، وانتخبت من قبل رؤساء الدول الأوروبية لرئاسة المفوضية الأوروبية عام 2019 وصادق البرلمان الأوروبي على ذلك بعد الاستماع وإقرار برنامجها للسنوات الخمس القادمة التي تنتهي في 2024، وهي أيضا أول امرأة تتولى هذا المنصب. فهي سياسية مخضرمة ومستقبلها السياسي ما زال أمامها، ويجب الاهتمام بكل كلمة تقولها لأنها تعبر عن موقف وعن سياسة يجب أن تؤخذ بمنتهى الجديّة.
افتراءات ومغالطات تاريخية وإنكار للنكبة
فالبيان الذي أدلت به تضمن بالإضافة للتعاطف الحميم مع إسرائيل واليهود، وهما أمر متوقع من أي ألماني يحمل على كاهله عبء الهولوكوست، تضمن أيضا ً مغالطات تاريخية وإنكار للنكبة / الكارثة التي لحقت بالشعب الفلسطيني الذي وجد نفسه يدفع ثمن الهولوكوست من صنع مجرمي النازية أسلاف أورسولا التي يجب أن تعترف بأننا دفعنا وما زلنا ندفع ثمن جرائم أسلافها الألمان، وأن إسرائيل قامت على أشلاء الشعب الفلسطيني بعد تشريد 750 ألف فلسطيني من وطنهم فلسطين عام 1948 وهدم 521 قرية وبلدة فلسطينية وارتكاب عشرات المذابح (بوغروم) ضد المدنيين الفلسطينيين الأبرياء العزل من قبل العصابات اليهودية، والاستيلاء على الممتلكات المادية والمعنوية للشعب الفلسطيني.
وعليها أن تعترف أيضا ً بأن فلسطين لم تكن صحراء كما زعمت، وإنما كانت تزخر بالحياة والانتعاش المدني والاجتماعي والسياسي والثقافي وتُشكل قبلة للفنانين والأدباء ورجال الأعمال والزوار من دول الجوار، وكان فيها مطار وسكة حديد ومسارح ودور سينما وكليات تعليم عالي بما في ذلك كلية للحقوق وتشكل نموذجا ً حضاريا ً متقدما في المنطقة.
وعليها أن تتذكر بأن إسرائيل التي تصفها بالديمقراطية هي ديمقراطية مزيفة تمارس التمييز بين مواطنيها على أسس إثنية وتنزلق تدريجيا ً نحو التطرف العنصري والمشيخية. وهي تحتل منذ عام 1967 شعبا ً آخر قوامه قرابة خمسة ملايين فلسطيني، وتحرمهم من أبسط حقوقهم الأساسية في التعبير والتنقل والتملك ، وقد نهبت ولا تزال تنهب أراضيهم وممتلكاتهم وتقيم عليها المستعمرات الاستيطانية، وتسرق مصادرهم الطبيعية، وتؤسس لنظام فصل عنصري أبرتهايد بكل المعايير.
ما صدر عن أورسولا من أقوال يكشف الانحياز الأغمى لاسرائيل والمعايير المزدوجة والكيل بمكيالين الذي تمارسه هي وأمثالها من الغربيين إزاء الشعب الفلسطيني، ويفضح في نفس الوقت حقيقة أن إسرائيل هي مستعمرة أوروبية، باعتراف أورسولا، ما زال مواطنيها يحملون الجنسيات الأوروبية ويستعمرون أرضا ليست لهم في زمن انتهت فيه كل المستعمرات الأوروبية خارج القارة الأوروبية، ولم تبق من تلك المستعمرات سوى إسرائيل التي بدأت تغرق في بحر العنصرية والتطرف، والتي لن تكون أوفر حظا ً من سابقاتها في جنوب أفريقيا والجزائر وغيرها من الأقطار التي عانت من الاستعمار الأوربي ولكنها ناضلت ضده وتحررت أخيرا من براثنه.
ومن المؤكد أنه لو كانت أورسولا تحترم أدنى قدر من مشاعر الانسان الفلسطيني أو تخشى ردة فعله أو ردة فعل من يمثلونه، أو كانت تحترم مبادئ الحق والعدل وتقرير المصير للشعوب، لما تفوهت بهذه الأقوال التي تُشكل تشويها وتزويرا ً للتاريخ، ولما أنكرت كارثة النكبة التي ارتُكبت بحق الشعب الفلسطيني، ولما أدلت بهذه الأقوال التي تشكل رياء رخيصا ً وتزلفا ً للإسرائيليين. فكما أن إنكار الهولوكويت هو جريمة، فإننا نعتقد بأن إنكار النكبة هو جريمة أيضا.
تدهور الوضع الداخلي الفلسطيني وراء التراجع في الموقف الأوروبي
والسؤال الذي يطرح نفسه هو ما سبب تراجع الموقف الأوروبي تجاه الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة منذ بيان البندقية في حزيران عام 1980 الذي اعترف بالحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني وطالب بإنهاء الاحتلال وعدم جواز ضم أراضي الغير بالقوة وفقا للقرار 242، ودعا الى الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في حكم نفسه بنفسه، وبحق منظمة التحرير بأن تكون شريكا في أية مبادرة سياسية، وطالب بترسيم حدود دول المنطقة، وبين ما نراه اليوم من تنكر أوروبي لحقوق الشعب الفلسطيني واستهتارا ً بها ومساواة للجلاد بالضحية.
هذا التساؤل يصلح لأن يكون موضوعا لرسالة ماجستير أو حتى دكتوراه من قبل طالب في العلوم السياسية، ولكنني أجيب عليه باختصار فأقول بأن التراجع عن دعم الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وصولا ً الى انكار هذه الحقوق والاستهتار بها وبأصحابها من قبل البعض هو نتيجة حتمية للتراجع في الأداء الفلسطيني على كل الأصعدة. فحين كانت هناك ثورة ومقاومة فلسطينية قبل الخروج من بيروت كان هناك من يخشى الفلسطيني أو من يتعاطف معه، ولكننا ومنذ أن قبلنا بنعت المقاومة المشروعة بالعنف والإرهاب وأعلنا “نبذنا للعنف والإرهاب”، ودخلنا في دهاليز مسارات سياسية مبهمة وبدأنا نتصارع داخليا ً على مغانم لا وجود لها على أرض الواقع، بدأ الفساد والخلل المالي والإداري ينخر في الجسد الفلسطيني، وبدأ العالم يتخلى عنا ويتراجع عن اعترافه بحقوقنا ويتعامل معنا كحالة اجتماعية غير سياسية ويتصدق علينا بالفتات لكي نبقى كما نحن، لأننا تحولنا من مشروع نضالي وطني الى مشروع استجداء اقتصادي ومالي وهذا ما يريدونه لنا.
الحالة الفلسطينية اليوم “لا تسر الصديق ولا تُغيظ العدا”. فنحن منذ عام 2002 نسير في اتجاه معاكس للاتجاه الذي بدأناه منذ دخلنا المسار السياسي. فقد تم خلال السنوات العشرين ونيف الماضية تفريغ وتهميش وتحنيط منظمة التحرير الفلسطينية، فأصبحت مجرد مسميات وهياكل لا تجتمع إلا في المناسبات، (وهذا موضوع له تعقيداته وتشعباتها التي يحتاج الخوض فيها الى أبحاث ودراسات لا يمكن تلخيصها في سطور)، وخفت بريق العديد من الفصائل الفلسطينية وانطفأت جذوتها ولم يعد لها أي دور نضالي على الأرض وباتت تقتات على اجترار أمجاد الماضي والتغني بها وتحول ممثلوها الى أختام مطاطية لتمرير ما يُملى عليهم دون معارضة لأن أية معارضة قد تؤثر على ما يُدفع لهذه الفصائل من ميزانيات أو ما يمنح لقادتها من امتيازات شخصية. وتم تفكيك بنية السلطة الوطنية الفلسطينية التي بدأ بناؤها كأساس لدولة على الطريق ثم انتكست وأصيبت بالتقلص والضمور العضلي المتمثل بالدمج بين السلطات الثلاث والتكلس المتمثل بالتصحر في الأشخاص والأداء ومعاداة أسس الحكم الرشيد، والتخلي عن اتاحة الفرص للطاقات الشابة.
العالم من حولنا ليسوا عميانا ً ولا أغبياء فهم يعرفون أننا تخلينا عن مسيرة التحرر وأصبحنا حالة اجتماعية كل ما تحتاجه هو “تحسين الوضع المالي للسلطة من خلال ما يسمى بتدابير بناء الثقة”، والذي تتم ترجمته الى “تحسين الوضع الأمني للاحتلال” لتكريس الوضع الحالي وتمكين إسرائيل من الاستمرار في تنفيذ برامجها الاستيطانية التوسعية تحت طائلة الادعاء بإدارة الصراع وليس حله. وطالما بقينا في هذا الوضع نستجدي دول العالم لتقدم لنا الدعم المادي لكي نستطيع دفع تكاليف ما أنيط بنا من مهام خدماتية هي أصلا ً من مهام الاحتلال، فسنظل نخضع للابتزاز ونتعرض للإهانات كتلك التي تفوهت بها أورسولا.
وللأسف الشديد، لم يعد انهاء الاحتلال على جدول أعمال أحد وإنما على بعض الشفاه كضريبة كلامية لا تُسمن ولا تُغني من جوع، والعالم لا يحترم الضعفاء ولا يأبه بالمتسولين. وهذا الوضع يستدعي وقفة جريئة مع النفس والإجابة على السؤال: ما الذي أوصلنا الى هذا الهوان. والجواب معروف للجميع الذي ما انفك يتساءل: من سيعلق الجرس.
الرابط المختصر https://insanonline.net/?p=141216