الحرب الأخيرة على غزة..صورة متجددة لـ”تراكمية” المعاناة الطويلة
بقلم: الدكتور عصام يوسف – رئيس الهيئة الشعبية العالمية لدعم فلسطين
تسوق الحرب الهمجية التي شنتها آلة الاحتلال العسكرية على قطاع غزة في مايو 2023 قصصاً لحالات إنسانية، ربما تلخص واقع المعاناة التي يعيشها مواطنو القطاع، وتبرز جانب “التراكمية”، إن جاز التعبير، لنوع فريد من المعاناة المضاعفة والمتضخمة لأبناء غزة، معنونةً بالاحتلال ثم الحصار، فالحروب والاعتداءات العسكرية، والتي أرادت على مدى عقود أن تكسر شوكة الفلسطيني، وتنزع منه كل شيء، بما في ذلك ما يمكن أن يعطيه سمة الكرامة والإنسانية.
وربما تكون قصة السيدة “نجوى عيشة” التي أحال صاروخ ضرب منزلها ثالث أيام العدوان الإسرائيلي، حياتها وعائلتها، إلى صورة قاتمة لا يمكن لأي إنسان أن يرى فيها سوى السواد، والبؤس، والاحباط المطبق على ما تبقى من أمل للعائلة في الحياة الاعتيادية والكريمة.
فقد أدى الصاروخ إلى إصابة السيدة نجوى بشلل نصفي، ما سيقلب حياة الأسرة رأساً على عقب، ويغيّر من إحداثيات حياة تسير بشق الأنفس، إذا ما علمنا بأن السيدة نجوى هي المعيل الوحيد للأسرة، بعدما أصيب زوجها بإعاقة تمنعه من تدبر أمور الأسرة مالياً، حيث ظلت طيلة السنوات الماضية تجتهد بكل طاقتها من خلال عملها في روضة للأطفال لتوفير ما يسد رمق أبنائها الأربعة، سيما وأن ما تتقاضاه من أجر لا يفي أصلاً بمتطلبات الأسرة في أحوالها العادية.
بهذا، تكون الحرب قد نقلت حياة السيدة نجوى وعائلتها إلى طور جديد من أطوار المعاناة، ليس لأحد من أفراد الأسرة تخيّل شكلها وحجمها، وإلى ما ستفضي إليه، إلا أنهم يستشعرون ما هو قادم بقلق بالغ، كاستشعار الكارثة، التي تترى فصولها واحداً تلو الآخر، لتعيد تكرير حياة بائسة، وتنتج على اثرها بؤساً أشد وطأة وإيغالاً.
وتتقاسم عائلة “أبو طير” نذير البؤس والشقاء مع عائلة “عيشة”، بعد تعرض منزلها في خان يونس إلى التدمير الثاني جراء القصف الإسرائيلي رابع أيام العدوان، فيما كان المنزل قد تعرض للتدمير في حرب عام 2014، وقامت الأسرة بإعادة بنائه، كما فقدت الأسرة ابنها محمد الذي استشهد على يد آلة القتل الصهيونية.
تعبّر السيدة سارة أبو طير عن عمق ألمها وحسرتها بقولها، خلال حديثها لإحدى وسائل الإعلام، متسائلةً “ما ذنب منزلنا يُقصف كل مرة ونُشرد؟ ولمَ يُروّعون الآمنين؟؛ في كل عدوان نكون على موعد مع نكبة جديدة؛ فبعد استشهاد ابني عشت حسرة طويلة، وبعدها قُصف المنزل وأعدنا إعماره واليوم يقصف من جديد”.
أما قصة آل النجار، في منطقة جباليا، فتدور في محور المعاناة “المركّبة” ذاتها، فقد تضاعفت مأساة الأسرة الفقيرة، مع استشهاد ابنها “عبد الحليم” في العدوان الأخير على غزة، فلم يعد الشاب الصغير “فراس”، الذي أقعده المرض يحظى بمن يساعده في أكله وشربه، وارتداء ملابسه، بعد رحيل نصفه الآخر عبد الحليم، كما فقدت الأسرة معيلها الوحيد، حيث بات أفراد الأسرة جميعهم بلا سند.
حصيلة العدوان الأخير على غزة زادت من حالة إرهاق وإنهاك مجتمع القطاع الجريح، إنسانياً، واجتماعياً، واقتصادياً، إذا ما اخذنا بعين الاعتبار بعضاً من الخسائر التي أحصيت عشية انتهاء العدوان، فقد أكدت وزارة التنمية الاجتماعية في غزة أن عدد الأسر التي أصبحت بلا مأوى جراء العدوان الأخير بلغت 459 أسرة، يعيش فيها أكثر من 2.516 فرد، منهم 1.180 طفل و688 من النساء، إضافة إلى 97 من كبار السن و3 أشخاص ذوي إعاقة”.
وتشير الوزارة في بيان صدر عنها بأن “الأطفال في هذا العدوان كانوا هدفاً مباشراً للاحتلال، إلى جانب ترويعهم بصوت الطائرات والقنابل والانفجارات، والتي تركت آثاراً نفسية عميقة لدى الأطفال ترتب عليها أن عدداً فقد حياته بسبب الخوف”، مضيفةً بأن “جيش الاحتلال مارس أبشع صور الابتزاز والسادية اتجاه الأسر الآمنة بشكلٍ عام، عبر قيامه بقصف البيوت دون سابق إنذار وهو يعلم بوجود ساكنيه، مما أوجد حالة من الهلع والخوف والرعب لدى الأطفال والنساء والمسنين والأشخاص ذوي الإعاقة”.
وبحسب المعطيات الحكومية الراصدة لخسائر العدوان الإسرائيلي على غزة، والذي استمر لخمسة أيام، فقد استشهد 33 مواطناً فلسطينياً، 30% منهم من النساء والأطفال، وأصيب 190 آخرين بجراح مختلفة.
وكما هو الحال في كل عدوان، حيث يعمد الاحتلال إلى تدمير المنازل كنهج يتبعه للنيل من عزيمة أبناء القطاع، فقد سُجل خلال التصعيد الأخير تدمير الاحتلال العشرات من المنازل، حيث بلغ إجمالي الوحدات السكنية المتضررة 2041 وحدة سكنية، بقيمة تقدر بـ 9 مليون دولار، بينهم 31 منزلاً هدماً كلياً، بما مجموعه 93 وحدة سكنية، و128 وحدة سكنية غير صالحة للسكن، فيما 1820 وحدة سكنية تضررت بشكل جزئي.
وفيما يتعلق بالخسائر في البنية التحتية فقد بلغت حوالي مليون دولار، حيث ألحق الضرر بـ159 خط مياه، و173 خط صرف صحي، 304 خطوط كهرباء وأعمدة ومحولات، 30 بؤرة في مختلف المحافظات، فيما تم إغلاق شوارع بسبب القصف والركام، أما الخسائر في المجال الاقتصادي فنورد بعضاً منها، حيث قدرت الخسائر المرتبطة بتوقف العجلة الاقتصادية بـ 40 مليون دولار طيلة أيام العدوان، فقد توقف تصدير أكثر من 1100 طن من الخضروات والأسماك، وتوقف حركة الصيد بشكل كامل، بينما بلغت قيمة الخسائر في القطاع الزراعي 3 ملايين دولار، منها 200 حفرة زراعية تحتاج إلى إعادة تأهيل وردم وتهيئة، فيما تضررت 10 آلاف متر من خطوط الري.
تضاف الخسائر سالفة الذكر إلى محصلات سابقة من الاعتداءات العسكرية والحروب الإسرائيلية على القطاع، كما أنها تضاعف من حجم المأساة الإنسانية التي تلفت بعضاً من أرقامها إلى واقع معيشي بالغ الصعوبة، لأهل غزة، فقد زاد العدوان من معاناة الغزيين في ظل حصار مستمر منذ 16 عام، بنسبة فقر وصلت إلى 60%، كما يعاني أكثر من 64% من سكان قطاع غزة من انعدام الأمن الغذائي ونسبة بطالة تزيد عن 44%.
لقد أهرقت الحرب المزيد من الدماء، وزيدت على دماء سفكتها آلة الحرب الاسرائيلية من قبل مراراً وتكراراً، ولم تكن قد جفت، وبصورة أكثر تجريداً، يمكننا القول بأن الحروب المتكررة على غزة، هي في واقع الحال مراكمةٌ للدماء على الدماء، وللألم على الألم، وللبؤس فوق البؤس.
فنواتج الحروب على غزة، في حساباتها الانسانية، بطالة فوق البطالة، وإضافة أخرى على أعداد الايتام، والأسر التي فقدت معيلها، والعمال الذين فقدوا أعمالهم، ورزق عيالهم، وأعداد اخرى أضيفت لقوائم الجرحى والمعاقين الذين يحتاجون لاقناعهم بجدوى الحياة الجديدة، بالغة الصعوبة، والتي تحفر عميقا في نفوسهم، تاركةً صدعاً طولياً لا يلتئم، بمجرد الكلمات التي تسعى لحشد الكثير من الأمل من أجل استمرارية الحياة.
صور كثيرة تفسر تراكمية المعاناة في غزة مع تكرار الحروب على القطاع، فلا حدود لحجم المعاناة، ولا أدوات لقياسها، فلا يمكن لأحد أن يدرك مقدار ألم أم تفقد أبناءها واحداً تلو الآخر، وينقص عدد أفراد أسرتها مع كل حرب تُشن، ومع كل قذيفة تعاود السقوط من جديد على غزة، لتحصد مزيداً من أرواح الأطفال، والمدنيين الأبرياء.
ولا تُضاعِف الحروب المتكررة على غزة من معاناة أهل القطاع بحد ذاتها، بل إنها أصبحت تُضاعف من حجم الدهشة والاستغراب لحالة الصمت التي تعتري المؤسسات الدولية، بما فيها العاملة في القطاعين الإنساني والحقوقي على حد سواء، فلربما باتت لديها صور الدمار، وإراقة دماء الأبرياء شكلاً مألوفاً ومعتاداً، لم يعد يستدعي الفزع والهلع، والتأهب بغرض التدخل السريع لإنقاذ الأرواح، أو أنها أصبحت ترى في نفسها جراحاً تبلدت مشاعره لكثرة مشاهدته الدماء التي تسيل أمام ناظريه.
وتذهب المؤسسات الدولية أبعد ذلك، عقب إعلان “برنامج الأغذية العالمي” التابع للأمم المتحدة تعليق مساعداته لـ200 ألف فلسطيني بداية من يونيو/ حزيران 2023، مبررةً ذلك بنقص التمويل، حيث يعد هذ القرار بمثابة إعلان “تجويع” صريح، إذا ما علمنا بأن القسيمة الشرائية الشهرية التي يدعمها برنامج الأغذية العالمي تعتبر مصدر طعام وحيد للعديد من الأسر في قطاع غزة، التي خرجت مؤخراً للشوارع في محاولة لإيصال صرختها التي تناشد بالفم الملآن: “لا تتركونا للجوع”، و”لا تحكموا علينا من خلال قراركم بالموت البطئ”.
مما لا شك فيه، فإن التداعيات الإنسانية للحروب المتكررة على غزة، فضلاً عن قرار برنامج الأغذية العالمي المشار إليه سالفاً، سيتركان مساحةً كبيرة فارغة يرتع فيها المرض والجوع والفقر والعوز، إلى جانب الاحباط المؤدي إلى الجريمة، وتدهور القيم المجتمعية، لا يمكن لها أن تُترك طويلاً ما لم يكن هنالك خطة إنقاذ وتدخل إغاثي سريع، لأن حدود الكارثة ستتعدى حدود القطاع لتصل إلى أماكن أخرى، بما فيها منظومتنا الأخلاقية التي سيعتريها التشوه حتماً إذا ما قبلت طويلاً بالصمت، لنجد الفراغ قد وصل إلى مخزوناتنا الأخلاقية التي ستنضب مع مرور الوقت إذا ما واصلنا دور المتفرج على المأساة الإنسانية، ومن يحترقون بنيرانها.
الرابط المختصر https://insanonline.net/?p=141924