سبعون سنة من التهويد..وحملات إسرائيلية جديدة لكن الجليل ما زال عربياً

كشفت مصادر إسرائيلية، اليوم، أن حكومة الاحتلال ترعى سلسلة خطوات وإجراءات جديدة لتهويد منطقة الجليل، المسكونة، حتى الآن، بأغلبية عربية، رغم مشاريع التهجير وتضييق الخناق، ورغم تراجع الزيادة الطبيعية لدى المرأة العربية.

 وحسب الخطة الحكومية التي كشفت صحيفة “هآرتس”، اليوم الإثنين، عن ملامحها الأساسية فإن الحكومة اليمينية (برئاسة نتنياهو، ومشاركة وزراء فاشيين وغيبيين في توجهاتهم السياسية، بعضهم مدان بالكراهية وبالإرهاب) تستعد لإطلاق خطة جديدة لتهويد الجليل، وسط استغلالها لتوسيع المستوطنات داخل الضفة الغربية أيضاً. وبموجب هذه الخطة العنصرية سيتم تخفيض أسعار الأراضي المخصصة للمستوطنات اليهودية في الجليل، في محاولة لاجتذاب المزيد من شباب وعائلات اليهود للسكن والبقاء فيها، علاوة على تعيين مستوطنين في لجان التخطيط والبناء الإسرائيلية.

فصل العرب عن اليهود

 كما تشمل هذه الخطة توسيع ما يُعرف بقانون لجان القبول، من أجل تمكين أكبر عدد ممكن من المجمعات السكانية اليهودية تحديد هوية من يقيم داخلها، بصرف النظر عن عدد سكانها، بما في ذلك المستوطنات الصغيرة التي تسكنها حتى 1000 عائلة، انسجاماً مع سياسات إسرائيلية تاريخية قضت بمنع الاختلاط بين اليهود وبين العرب، والحرص على الفصل بينهم من خلال “لجان القبول”، وهذا من أجل تيسير عملية ترجمة التمييز العنصري في تقديم خدمات أساسية، علاوة على تكريس حالة العداء والتوتر، ومواصلة “تهويش” اليهود على العرب، والإبقاء على جاهزية قتالية لدى اليهود، ومنع تأثّرهم برواية غير صهيونية حول ما جرى ويجري.

 وطبقاً لصحيفة “هآرتس”، سيرأس نتنياهو نفسه طاقماً وزارياً ومهنياً لمتابعة تنفيذ ما يتعلق بمنح اليهود فقط أراضي بأسعار منخفضة، وبـ “لجان القبول”، مثلما قالت إنه سيتم استغلال الفرصة لتطبيق قانون “لجان القبول” في مستوطنات الضفة الغربية أيضاً.

من جهته، يؤكد مدير عام “معهد إسرائيل للديمقراطية”، الأستاذ الجامعي المحاضر في القانون مردخاي كريمنتسر، أن الهدف من ” قانون لجان القبول” هو رفض العرب، والتمييز، مرجحاً أن توسيع مدى تطبيق هذا القانون منبعه حالة الضيق لدى اليمين غير الليبرالي، نتيجة الوجود العربي في الجليل. وتنقل صحيفة “هآرتس” عن كريمنتسر قوله إن توسيع قانون لجان القبول مثله مثل الانقلاب الدستوري يهدف للمساس بمبدأ المساواة.

تراجع التكاثر

وتعلل وزيرة الاستيطان والمهام الوطنية المستوطِنة أوريت ستروك هذه التوجهات العنصرية السافرة بالزعم الكاذب أن البلدات العربية لا تشهد ضائقة سكنية، علماً أن هذه البلدات العربية تحولت مع الأيام إلى ما يشبه “علب السردين”، بسبب الازدحام الشديد فيها، جراء سياسات تضييق الخناق، والامتناع عن المصادقة على خرائط هيكلية توسع مسطحات البناء، استجابة للتكاثر والزيادة الطبيعية. يشار إلى أن الزيادة الطبيعية لدى فلسطينيي الداخل قد تراجعت في السنوات الأخيرة، من نحو 5.5% إلى حوالي 2.5% فقط، نتيجة سياسات تضييق الخناق عليهم، ونتيجة ارتفاع مكانة المرأة، تعلّمها ومشاركتها في العمل، وهذا التراجع يجعل من المستوطنين واليهود الأورثوذوكس (الحريديم) أكثر تكاثراً من العرب، عدا العرب البدو في النقب.

 قانون القومية

وتأتي هذه الخطوات العنصرية الإسرائيلية الآن ترجمة عملية لقانون القومية من 2018، والقاضي بأن إسرائيل هي دولة اليهود، وهناك مراقبون يرون أن مبادرة حكومة الاحتلال، في حينه، لتشريع القانون العنصري السافر جاءت إثر نجاح فلسطينيي الداخل، في ذات العام، بتوحيد أحزابهم وتشكيل “القائمة المشتركة”، وإدخال 15 نائباً للبرلمان الإسرائيلي، وكانت وقتها الكتلة الثالثة بحجمها، وهذا ما اعتبرته جهات إسرائيلية تهديداً للطابع اليهودي للدولة.

ورغم المخططات الإسرائيلية، فإن العرب يشكلون، حتى اليوم، أكثر من 51% من سكان الجليل، ولذا يتحدث الوزراء الرعاة للخطة العنصرية الجديدة، اليوم، عن محاولة “إنقاذ الاستيطان اليهودي في الجليل”. يشار إلى أن الحكومات الإسرائيلية السابقة، بصرف النظر عن هويتها الحزبية، عملت على تحقيق هذا الهدف العنصري من خلال تأسيس وزارة تطوير النقب والجليل، والمقصود بـ “تطوير الجليل”، كما يقول الواقع، “تهويد الجليل”. وجاءت هذه التسمية لإخفاء التوجهات العنصرية، لكن الحكومة الحالية تمارسها بشكل سافر، ودون أقنعة.

مخططات جديدة ومآرب قديمة جداً

وهنا ينبغي التأكيد على أن مشاريع تهويد الجليل والنقب الحالية تنم عن مخططات جديدة، لكنها تهدف لتحقيق مآرب قديمة جداً. لقد شغلت هذه القضية إسرائيل منذ قامت، غداة نكبة 1948، بل أرّقت الحركة الصهيونية قبل ذلك. يذكر أن إسرائيل احتلت الجليل على مراحل، الأولى كانت قبل الإعلان عن قيامها، في 15 مايو/أيار 1948، والمرحلة الثانية خلال ما يعرف بـ  “حملة ديكل”، أو حرب الأيام العشرة، حينما احتلت، في يوليو/تموز، مركز الجليل، وفيها احتلت مدينتي الناصرة وشفا عمرو وقضاءهما، وفي المرحلة الثالثة استكملت احتلال الجليل، خاصة الأعلى، ضمن عملية “حيرام” (سُميت العملية على اسم ملك صور الفينيقي “حيرام”)، وبالموازاة قامت بـ “حملة يوآف”، واحتلت النقب حتى خليج العقبة.

لماذا بقي عرب كثر في الجليل

لكن إسرائيل، ورغم التطهير العرقي، والمذابح التي اقترفتها خلال عملية “حيرام”، لم تتمكن من طرد كل السكان العرب الفلسطينيين من الجليل، وفيه يقيم اليوم معظم فلسطينيي الداخل، الذين يعدون مليوناً ونصف المليون نسمة، ويشكلون نحو 19% من السكان في إسرائيل.

بشكل عام، وبخلاف مناطق معينة من فلسطين، تم إخلاء العرب منها بالكامل، أو بقي فيها عدد قليل من سكانها الأصليين، هناك مناطق بقيت فيها مجمعات سكانية كثيرة كالجليل. تفيد خريطة فلسطين أن الباقين الناجين من التهجير عاشوا في أغلبيتهم في أماكن كانت مخصصة للدولة العربية وفق قرار التقسيم، وشكلت البقية الباقية في مدينتي حيفا وعكا والناصرة ونحو سبعين قرية في الجليل العصب الأساسي لهذه الأقلية العربية في الدولة اليهودية التي فرضت حدودها بقوة جيشها واحتلالها.

وفي الأرقام؛ بلغ تعداد سكان الجليل عشية تقسيم فلسطين في 29.11.1947 نحو 241 ألف نسمة، منهم 31790 يهود، وبعض الآلاف من الشركس والأرمن، وقد سكن العرب في 220 مدينة وقرية في الجليل، بقي منها بعد النكبة 70 فقط. وهذا يعني أكثر أن ثلثي البلدات العربية في الجليل قد دُمر وطُرد سكانها، ونجا من هذا المصير نحو 100 ألف نسمة، شكّلوا حوالي نصف العرب في منطقة الجليل ذاتها حتى أواخر 1947، ولذا فإن الانطباع السائد بأن “سكان الجليل قد نجوا من النكبة” ليس دقيقاً، فرغم بقاء فلسطينيين في الجليل أكثر من مناطق أخرى إلا أن التطهير العرقي، في بعض نواحيه، كان شبه شامل، كما في قضاء صفد، أو في كل الجليل الشرقي الأعلى، على سبيل المثال، كما يؤكد المؤرخ الفلسطيني عادل مناع في كتابه «نكبة وبقاء».

تقليل الكم والكيف

ويفسر مناع ذلك بالإشارة لكثرة المستوطنات اليهودية في الجليل الشرقي الأعلى، والتي ساهمت في طرد الفلسطينيين، علاوة على كون قراهم حدودية، وذلك بخلاف واقع الحال في مناطق الجليل الأوسط والأسفل المخصصة، وفق قرار التقسيم، للدولة العربية، وفيها الاستيطان اليهودي قبل النكبة قليل، إضافة لبقاء العرب الدروز فيها، مما ساهم في بقاء عرب فلسطينيين أكثر فيها، ومن ثم ساهم في إنقاذ قرى عربية مجاورة من التدمير. كما يؤكد مناع أن المجازر في الجليل الأعلى، خاصة في المناطق المحاذية للحدود مع لبنان، كانت أشد وأقسى من مناطق أخرى في الجليل، من ناحية القتل والاغتصاب والسلب والنهب (الصفصاف، صلحة، ترشيحا، حولة، الجش، وسعسع)، ومع ذلك نجا نصف قرى الجليل الأعلى الغربي من التهجير في عمليات حيرام، فبقيت 30 قرية نصفها درزية أو مختلطة.

صداع بن غوريون

وتكشف مستندات أرشيفية إسرائيلية عن انشغال كبير لدى حكوماتها، منذ حكومتها الأولى المتشكلة عام 1949 برئاسة دافيد بن غوريون، بـ “الطابع العربي الخطير” للجليل، بقسميه الأسفل والأعلى، والممتد من تخوم مرج بن عامر في الجنوب، حتى الحدود مع جنوب لبنان شمالاً، وبين البحر المتوسط غرباً وسهل الحدود الأردنية والسورية شرقاً.

وتفيد مئات الوثائق التاريخية، التي فضحها معهد “عكيفوت” الإسرائيلي قبل عامين، بأن المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة بحثت في السؤال كيف نتخلص من الفلسطينيين المتبقين بأعداد لا تحتمل في الجليل، وتصحيح “الخطأ ” المتمثل بعدم تنظيفه من العرب. تشمل هذه المستندات الأرشيفية محاضر جلسات الحكومة والمؤسسات الأمنية، وفيها يحاول قادة إسرائيل البحث عن حلول، منها التهجير تحت دخان حرب تندلع، كما حصل في مذبحة كفر قاسم، عام 1956، باستغلال “العدوان الثلاثي” على مصر، وكذلك التهجير الصامت من خلال تضييق الخناق على فلسطينيي الداخل، أو مشاريع ترحيل طواعية من خلال نقل أعداد منهم إلى أمريكا اللاتينية، أو شمال سوريا مقابل تعويضات.

 وطيلة عقود متتالية عملت إسرائيل، ضمن سياسات تضييق الخناق، على سلب ونهب ما تبقى من أرض لدى فلسطينيي الداخل، ضمن معادلة “أكثر مساحة ممكنة من الأرض، مع أقل عدد ممكن من العرب”، وهذا ما قاد لتفجّر هبّة يوم الأرض، الأول في مارس/آذار 1976. 

عنصرية من دون “ميك أب”

 يذكر أيضاً ما يرويه بن غوريون في مذكراته عن زيارة قام بها للجليل، في خمسينيات القرن الماضي، ويقول إنه عاد منه مع “صداع” معتبراً أنه كأنما يتجول في سوريا لا في إسرائيل، بسبب كثرة البلدات العربية المنتشرة في شمال البلاد.

ومنذ 1948، سعت إسرائيل لتقليل عدد الفلسطينيين فيها، خاصة في الجليل علاوة على تقليل وجودهم بحرمانهم من الحق الأساسي بهوية وطنية، وذلك من خلال مشاريع أسرلة وتهويد لم تتوقف. وينعكس المسعى للتهويد والأسرلة بمشروع قانون جديد لزيادة رقابة المخابرات الإسرائيلية العامة على المدارس العربية، وعلى تعيين العاملين فيها. ولذا تكرس صحيفة “هآرتس” العبرية، اليوم الإثنين، افتتاحيتها لهذه الفضيحة الجديدة.

تقول “هآرتس” إن المعلمين العرب تحت المجهر، وإنه بعد إعلان الحرب على رفع العلم الفلسطيني، أعلن الائتلاف الحكومي الحرب على جهاز التعليم العربي، كهدف قومي قادم.

سواء بالكم أو الكيف تحاول إسرائيل إضعاف فلسطينيي الداخل، المنزرعين في وطنهم، والمسكونين بهاجس البقاء، ويعتبرونه أهم منجزاتهم، وما زالوا يتغنّون بقول الراحل حنا إبراهيم، وهو أحد شعرائهم من بلدة البعنة الجليلية: “جليلنا ما لك مثيل، وترابك أغلى من الذهب، ولو هبطت سابع سما ما منه رحيل”.

 وهناك من يرى أن هذا البقاء كفيل بإعادة الصراع لمربعه الأول، والتاريخ إلى مجراه الأول، في ظل تراجع نسب الهجرة اليهودية من العالم، وارتفاع تعداد فلسطينيي الداخل من 150 ألف نسمة، غداة نكبة 1948، إلى مليون ونصف المليون نسمة اليوم، رغم تراجع نسبة الزيادة الطبيعية لدى معظمهم، وهذا ما يثير عداء وجنون أوساط إسرائيلية واسعة، بعضها يعبّر عن عدوانيته وعنصريته بشكل سافر ودون “ميك أب”.

المصدر: القدس العربي