بقلم: إحسان الفقيه
«اكذب، ثم اكذب، ثم اكذب، حتى يصدقك الناس»، هذه القاعدة الشيطانية المنسوبة لمهندس الدعاية النازية غوبلز، هي جوهر الدعاية للمشروع الصهيوني، الذي قام على مجموعة من الكذبات التي تم ترويجها وتجييش كل الوسائل لغرسها في وجدان العالم بأسره، فيتراكم تداولها لتتحول إلى حقيقة لا تُنكر. فابتداءً بأسطورة «شعب الله المختار»، مرورا بأسطورة «أرض الميعاد»، وصولا إلى أسطورة أخرى، كرّس لها الاستعمار البريطاني ـ الراعي الرسمي للصهيونية – وجعلها الكيان الإسرائيلي شعارا له، وهي أكذوبة «أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض»، والغرض منها التأكيد على حق الصهاينة الذين هم «شعب بلا أرض»، في أرض فلسطين، الذين يدّعون أنها «أرض بلا شعب»، في محاولة مفضوحة لتجريد الفلسطينيين من تاريخهم واختطافه. وهذا الشعار يتضمن أكثر من معنى: المعنى الأول: نفي الوجود التاريخي للفلسطينيين قبل أن يستوطنها الإسرائيليون، وهو ادعاء محض كذب، يدل عليه فشلهم الذريع بعد عقود طويلة من التنقيب عن آثار لهم في فلسطين سابقة على وجود الكنعانيين العرب، إذ الثابت تاريخيا ومن خلال الكشوفات الأثرية، أن اليبوسيين العرب (من الكنعانيين) هم أول من سكن فلسطين، وذلك في الألف الثالث قبل الميلاد، أي قبل وجود يعقوب (إسرائيل) بعدة قرون، بل قبل وجود الخليل إبراهيم نفسه.
المعنى الثاني: زعم الصهاينة أن فلسطين كانت خاوية من السكان الفلسطينيين إلا قليلا، وهو تضليل مفضوح أيضا، فعدد السكان الفلسطينيين عام 1914 بلغ 634.633 نسمة. وفي عام 1948 وهو عام النكبة وقيام دولة إسرائيل المزعومة، كان عدد الفلسطينيين، قد بلغ مليونا و415 ألف نسمة، وهو عدد كبير بالنسبة لمساحة فلسطين التاريخية آنذاك، التي بلغت 27 ألف كيلومتر مربع، ما يعري هذه الدعوى الصهيونية ويكشف زيفها.
المعنى الثالث: إشارتهم إلى تخلّف سكان هذه الأرض عن ركب الحضارة وعدم استغلال هذه الأرض، وأن الإسرائيليين بعبقريتهم الفذة هم أولى بها من أولئك العرب الهمج، وهذا أيضا تدليس واضح، فقبل قيام الدولة المزعومة، كانت فلسطين تحت السيادة العثمانية، وكانت مترعة بالمنشآت والإعمار والتنظيم الإداري والسكك الحديدية ومكاتب البريد والمدارس بمختلف مراحلها والجامعات، وما يعرف الآن بالنقابات، ونحوه، كدولة مؤسسات.
ومن ثم يتبين حجم الكذب الصهيوني، ومن ناحية أخرى، فلو سلمنا لهم بهذا المنحى، فهل يسوغ لهم أن يحتلوا دولة ويشردوا ويهجّروا ويقتلوا شعبها لمجرد أنهم أصحاب الأدوات الحضارية! ترتّب على هذا الشعار الذي روجته الصهيونية، خاصة بمعناه الثاني، جريمة التطهير العرقي الممنهجة، التي قام بها الصهاينة بحق الفلسطينيين، لإنشاء دولة صهيونية من دون عرب، ففي عام 1948 تم تهجير أكثر من سبعمئة ألف فلسطيني، وتدمير حوالي 500 قرية في المتوسط. وبعد نكسة حزيران/يونيو 1967 التي تم على إثرها احتلال الضفة وقطاع غزة، هُجّر حوالي 460 ألفا من الفلسطينيين، واستمرت عمليات التهجير حتى 1979، ليصبح حتى اليوم ملايين من الفلسطينيين خارج وطنهم يطالبون بحق العودة.
لقد كان من وراء هذا الادعاء الصهيوني، الذي ترتب عليه تهجير الفلسطينيين، هو ذلك الخوف المستمر من الخطر الديموغرافي، وإلى اليوم يبقى هو الخطر الأكبر الذي يمثل تهديدا وجوديا للشعب الإسرائيلي، فالإسرائيليون يلتفون حول يهودية دولتهم، والكنيست الإسرائيلي أقر عام 2018 قانون القومية، الذي اعتبر أن إسرائيل الدولة القومية للشعب اليهودي، وحصر ممارسة حق تقرير المصير فيها للشعب اليهودي فقط.
فأي خطر يهدد أكثريتهم، وبالتالي يهدد وجودهم، وهذا ما أدى إلى وجود تيار إسرائيلي ينادي بحل الدولتين حفاظا على يهودية الدولة، بعد أن تخطى عدد الفلسطينيين المقيمين في فلسطين وحدهم حاجز 50%، من دون حساب أعداد الفلسطينيين المهجرين على الرغم من المساعي الإسرائيلية لحض الإسرائيليين على كثرة التناسل، ولا تزيد نسبة المواليد بين الإسرائيليين إلا في وسط المتدينين منهم، الذين يرون في كثرة النسل تحديا ديموغرافيا للفلسطينيين. وفي المقابل، اليمين الإسرائيلي الحاكم دائما ما يكذب هذه الأرقام، والذي يرفض حل الدولتين. الهجرات الصهيونية العكسية، وضعف القدرة الإنجابية لدى الإسرائيليات، مقابل الخصوبة الزائدة لدى الفلسطينيات، فاقمت من شعور الصهاينة بالخطر الديموغرافي، إذ تضاعف عدد الفلسطينيين منذ نكبة 1948 عشر مرات، وكل التوقعات تشير إلى أن التباين في الأرقام لصالح الفلسطينيين سوف يستمر في الازدياد. لم يزل هم الكيان الإسرائيلي منذ إعلانه قيام الدولة، هو ضمان تحقيق أغلبية عددية للصهاينة، وفي سبيل ذلك يستخدم عدة وسائل، منها تهجير واغتيال الفلسطينيين، والدعوة إلى الهجرة اليهودية من شتى بقاع الأرض في حين يرفض عودة الفلسطينيين، ودعوة الشعب الإسرائيلي لكثرة الإنجاب. الفلسطينيون صاروا يعولون على المعركة الديموغرافية، التي تتطلب سياسة النفس الطويل، بهدف تآكل الكيان الإسرائيلي مع اتساع رقعة التباين العددي لصالح الفلسطينيين، ليصبح الصهاينة أقلية حاكمة للأكثرية الفلسطينية، كأرضية يبنى عليها لتحقيق حل الدولتين على الأقل.
لكن ينبغي التحذير من التعويل على هذا المسلك وحده في نيل الحقوق الفلسطينية، أو اختياره باعتباره الطريق الأسهل والأيسر والأكثر أمانا والأقل كلفة، بل ينبغي أن يكون جنبا إلى جنب الأدوات الأخرى كالنضال السياسي والعسكري، وإلا أصبحت القضية الفلسطينية قيد الإرجاء وارتقاب عجلة الزمن، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
المصدر: القدس العربي
الرابط المختصر https://insanonline.net/?p=142869