“عيون على التراث”: جهود فلسطينية لإبقاء تاريخ غزة “حياً”

بريشة ناعمة مصنوعة من مواد طبيعية، تنفض الباحثة الفلسطينية آلاء دويمة بتأنٍ الأتربة العالقة على أوراق كتيب قديم يعود للعلامة الغزاوي الشيخ أحمد بسيسو.
ويعد هذا الكتيب القديم، واحد من آلاف المجموعات النادرة من المخطوطات والسجلات والوثائق والصحف والدفاتر، التي نجحت مؤسسة «عيون على التراث» (غير حكومية) في جمعها على مدار سنوات، منذ تأسيسها عام 2009.
وتعود معظم هذه المخطوطات والوثائق والسجلات والآلاف من الكتب النادرة، للفترة الزمنية الممتدة بين أواخر العهد العثماني وحتى عام 1948.
كما يتنوع محتوى هذه الأدبيات والمخطوطات بين «التاريخ والجغرافيا والسياسة والزراعة والأدب»، حيث تختلف لغاتها لتضم «العثمانية القديمة واللاتينية والعربية والإنكليزية»، وفق قولها.
وتمثل المخطوطات الفقهية العدد الأكبر من بين المخطوطات الموجودة بغزة، فيما يصل عمر أقدم مخطوط في هذا المكان لنحو 3 قرون، لعام 1720ميلادي.
وداخل ورشة في مقر المؤسسة في قطاع غزة، تتفانى مجموعة من الباحثات من مختلف التخصصات في أداء أعمالهن، بترميم هذه المجموعات النادرة التي توثق التاريخ والثقافة والتراث الفلسطيني، حفاظا عليه من الاندثار.
تمسك الباحثة حنين السرساوي بالمكبر لتبحث بين صفحات الكتاب، الذي تعمل على ترميمه عن حشرات قد تتواجد بين أوراقه وتتغذى عليها.
لتعكف لاحقا بمسح الورقات بعناية فائقة باستخدام إسفنجة مصنوعة من ألياف «الفينيل»، البديلة عن الإسفنج الطبيعي غير المتوفر في قطاع غزة، بسبب الحصار المستمر للعام الـ17 على التوالي. وتقول إن هذه أولى مراحل الترميم وتسمى بـ»الصيانة الوقائية»، ويتم خلالها الكشف عن عدة أمور أبرزها «نوع الحبر المستخدم في الكتابة، والعلامات المائية على الصفحات، والأختام إن وجدت خاصة التملّك، وحالة الورق ودرجة الحموضة، وقياسات وأبعاد الكتب أو المخطوطات».
وبجانب السرساوي، في زاوية أخرى من الورشة، تجلس جمانة جبر أمام طاولة، حيث تعمل على أرشفة الكتب والمخطوطات رقميا.
وتقول إن المؤسسة تهتم بإتاحة نسخ رقمية من هذه المجموعات على موقعين عالميين، وهما «المكتبة البريطانية» ومتحف ومكتبة مخطوطات «هيل» الأمريكية.
و تقول حنين العمصّي، المديرة التنفيذية لـ»عيون على التراث»، إن المؤسسة منذ تأسيسها أخذت على عاتقها إنقاذ كل ما يمكن إنقاذه من تراث غزة سواء من مخطوطات أو كتب نادرة أو مجموعات ورقية مختلفة.
وأضافت: «خلال السنوات الماضية، عملنا على جمع هذا التراث والتحقنا بعد عام 2017 بتدريب مكثف سواء في تحقيق المخطوطات أو آلية الحفاظ عليها بالترميم والأرشفة الرقمية».
وأوضحت أن المؤسسة سعت لتغيير نظرة العالم لغزة من كونها منطقة بحاجة مستمرة للمساعدات الإنسانية، إلى مدينة عامرة بـ»الثقافة والفكر والأدب، أخرجت للعالم علماء مؤثرين تتلمذ على أيديهم العديد من علماء فلسطين».
وتابعت: «لدينا مجموعات للشيخ وفا العلمي، وأحمد بسيسو والشيخ عثمان الطباع».
وفي السياق، أشارت العمصّي إلى أن عملية التحقيق من الكتب وقراءتها تثري الباحث وتساعده في عملية الترميم.
وأردفت: «المرمم إن لم يكن لديه ثقافة لن ينجح في عملية الترميم». تقول العمصّي إن المؤسسة أطلقت عام 2022 مشروعا للترميم بعنوان «الحفاظ على مجموعات عيون على التراث من مخطوطات وكتب نادرة وسجلات».
وتوضح أن هذا المشروع يشتمل على 4 مراحل، الأولى متمثلة بالترميم، وأما الثانية مرتبطة بإعداد تقارير علمية بالمصطلح الحديث «الميتا داتا»، والثالثة الأرشفة الرقمية.
وأما المرحلة الرابعة فهي تتعلق بالحفاظ على المجموعات الورقية في صناديق خالية من الحموضة لإطالة عمرها وإبقائها «حية» للأجيال القادمة.
وتصف عملية الترميم بـ»المعقدة والحساسة»، حيث تحتاج صبر طويل، وهو ما يفسر اختيار طاقم الترميم من النساء فقط.
وتابعت: «المجموعات والمخطوطات بحالة سيئة جدا، لذا قد تأخذ من أخصائي الترميم وقتا بين 6-7 ساعات».
وتقول إن المرحلة الأولى من الترميم، والمتمثلة بالصيانة الوقائية، يتم خلالها استخدام مواد طبيعية وأدوات طبية لمعالجة كل ما يمكن معالجته في الأوراق للحفاظ عليها.
ومن لأدوات الطبية في عمليات الترميم، هناك الملقط والمقص والإسفنج المصنوع من الفينيل، الذي لا يتسبب بخدوش للأوراق، إضافة إلى العدسات المكبرة للكشف عن الحشرات التي تتغذى على الأوراق والجلود الطبيعية التي صنعت منها الكتب والمخطوطات.
ووفقا لها، تسعى المؤسسة خلال الفترة المقبلة، إلى الحصول على أجهزة «تعفير وتعقيم» والتي توفر المرحلة الأولى من الترميم بشكل آلي لتعقيم الأوراق من الأتربة والحشرات، وذلك من خلال تكوين شراكات مع مؤسسات تُعنى بالمخطوطات والتراث الثقافي حول العالم، وفق قولها.

آمال وطموح

وعبّرت العمصّي عن آمالها في وصول الفريق للمراحل اللاحقة من الترميم، والتي يتم خلالها ترميم المخطوطات بالورق الياباني وتجليد وحياكة كل مخطوط للحفاظ عليه، مشيرة إلى أن هذه العملية غيرة متوفر حتى الآن.
كما أعربت عن طموح مؤسستها في إنشاء متحف دائم في قطاع غزة يجذب السائحين من حول العالم، من أجل الاطلاع على التراث الزاهر والذاكرة التاريخية لغزة وفلسطين والتي يسعى الاحتلال الإسرائيلي لتزويرها.

المصدر: الأناضول