إهانة المسلمين كاستراتيجية غربية للهيمنة

بقلم: حسن أبو هنية

غدت إهانة المسلمين بتدنيس أخص معتقداتهم في الإلهيات والنبوات والسمعيات بكافة الطرق الممكنة، من حرق المصحف إلى الرسوم المسيئة لنبي الإسلام، ممارسة شائعة في الغرب مُنحت تسمية ملطفة نعتت بـ”الإسلاموفوبيا”، وباتت كراهية لإسلام ودونيّة المسلمين صناعة عولمية رابحة للدخول في أفق الثقافة الغربية الرأسمالية النيوليبرالية، وأصبح التنافس في سوق إهانة المسلمين سلعة رائجة.

وعلى خلاف ما يذاع بأن إهانة المسلمين ظاهرة فردية خاصة، فإن إهانة المسلمين تقع في سياق استراتيجية غربية للهيمنة غايتها الجوهرية انتهاك أشد الرموز الإسلامية قداسة لضمان ديمومة عمليات السيطرة والإخضاع، ومنع أي فعالية لمقاومة آليات مسخ الهوية وإلغاء إمكانية تشكل أي كينونة إسلامية مناهضة للغرب.

تقع الإهانة في صميم الاستراتيجية الغربية ضد المسلمين، وهي بنية راسخة في صلب مشروع الهيمنة الغربي، وليست حدثاً عارضاً، وذلك باستخدام كافة الطرق والوسائل المادية والرمزية الممكنة من خلال الإبادة البشرية والإبادة المعرفية. فمنذ خضوع العالم الإسلامي للاستعمار الأوروبي بداية القرن التاسع عشر، تمت إزالة وتفكيك ومحو وطمس النظام الاجتماعي السياسي الاقتصادي الذي كانت تنظمه الشريعة هيكلياً، وأفرغت الشريعة من مضمونها كما بيّن وائل حلاق، واقتصرت الشريعة على تزويد تشريعات قوانين الأحوال الشخصية في الدولة الحديثة بالمادة الخام. وحتى في هذا النطاق الضيق، فقدت الشريعة استقلالها ودورها كفاعل اجتماعي لمصلحة الدولة الحديثة.

ولم تكن عملية إزاحة الشريعة واستبدالها نتاج عملية تثاقف -وحتى في هذا النطاق لطالما كان التثاقف مسألة غزو حسب طلال أسد- لكن واقع الحال أن الاستعمار الأوروبي قام على فرض حكمه بعنف كولونيالي لا نظير له في التاريخ الإنساني. فخلال القرن السادس عشر الطويل الذي يشير إلى منشأ الكولونيالية كأحد مكونات مشروع الحداثة الرأسمالية الغربية، كانت الذات الغازية شرطاً للذات المدركة عند ديكارت كما يؤكد الفيلسوف إنريكي دوسيل، فـ”أنا أغزو إذاً أنا موجود” هي أساس “أنا أفكر إذاً أنا موجود”، وذلك بعد توسط “أنا أبيد إذاً أنا موجود”، وهو ما أدى إلى سلسلة من أربع عمليات من الإبادة منذ عام 1492، استهدفت الأولى مسلمي الأندلس. فالمنطق العملي للاستعمار الاستيطاني هو “القضاء على السكان الأصلانيين”، حسب باتريك وولف، ولكن الشعوب الأصلانية موجودة، وهي تقاوم، وتستمر من ناحية، ولذلك فالاستعمار الاستيطاني هو بنية تستوعب الأصلانية، كما تحاول إخفاءها من ناحية ثانية.

لم تكن العلمانية والرأسمالية الليبرالية في العالمين العربي والإسلامي مجرد عملية تثاقف وتأثير وتبادل، وإنما آلية غزو وإزالة ومحو، فبعد أقل من عشر سنوات على الثورة الفرنسية 1789، قام نابليون بغزو مصر في إطار الحملة الفرنسية على مصر والشرق عام 1798، وقد أباد الفرنسيون نحو سُبع الشعب المصري خلال سنتين فقط، حيث أبادوا نحو 300 ألف من شعب مصر، والذي كان تعداده آنذاك أقل من ثلاثة ملايين مصري. وفي الجزائر تمت إبادة نحو ثلث الشعب الجزائري، وقد أعلنت الرئاسة الجزائرية أن ضحايا الاستعمار منذ 1830 إلى 1962 يبلغ 5 ملايين و630 شهيداً، ورغم اشتهار الجزائر بثورة المليون شهيد، إلا أن بعض المؤرخين الموثوقين يشير إلى أن ضحايا الاستعمار الفرنسي في الجزائر يصل إلى نحو 10 مليون جزائري. وقد تمت إبادة نحو نصف الشعب الليبي، فالاستعمار الإيطالي وحده أباد نحو عُشر سكان ليبيا، أو حوالي واحد من بين كل ثلاثة رجال قادرين على حمل السلاح، أثناء العقود الثلاثة الأولى من حكمه الذي وجد في ليبيا فرصة لخلق “الإنسان الفاشي الجديد”.

لم يقدم الغرب للمسلمين أي اعتذار عن عمليات الإبادة والإهانة، فالمشروع الكولونيالي الإمبريالي الأوروبي الإبادي العنيف في العالم الإسلامي هو بنية وليس حدثا مزودا بجهاز “الاستشراق” كبنية وخطاب، وإنشاء شكل المؤسسة المعرفية والرمزية للكولونيالية المادية العنفية بهدف إعادة إنتاج الشرق وتمثيله على شاكلة متخيل الغرب، لتثبيت استعمار المعرفة والخيال والسلطة، في ذات الوقت الذي كانت الاستعمارية تزيح وتمحو وتبيد الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي ماديا من خلال القوة العسكرية الإبادية الباطشة.

يشير جوزيف مسعد في كتابه “الإسلام في الليبرالية” إلى أن الغرب بنى أسطورته الهوياتية الخاصة كنقيض للإسلام، ويؤكد على أن الإسلام يقع في قلب الليبرالية وأوروبا، فالإسلام هو ما يجب قمعه حتى يقدم الغرب نفسه على أنه ليبرالي وتقدمي. فالمخاوف بشأن ما تشكله أوروبا من الاستبداد، وعدم التسامح، وكره النساء، ورهاب المثلية؛ قد تم إسقاطها على الإسلام، ومن خلال هذا الإسقاط يمكن أن تظهر أوروبا كديمقراطية، متسامحة، محبة للفلسفة، ومحبة للمثليين، وباختصار خالية من الإسلام”. فما نسميه “الإسلام” هو الآخر الذي تعرف الليبرالية نفسها ضده ومن خلاله.

لقد تم ترسيخ تفوّق الغرب ومعياريته باعتباره الحالة الطبيعية في مقابل انحطاط “اللا غرب” وشذوذه، فهذه الهرمية العنيفة بين الغرب و”اللا غرب” باتت تبتلع الأمة المسلمة كجزء من “اللا غرب” المقهور. وفي كتابه “استعادة الخلافة: تفكيك الاستعمار والنظام العالمي”، يقدم سلمان سيد رؤية نقدية للنظام الدولي الراهن، تتحدى المركزية الغربية، من خلال استدعاء مفهوم الخلافة الذي يعبر عن الكينونة المسلمة على الصعيد العالمي، إذ يمثل التعبير عن تلك الكينونة الإسلامية في هذا السياق تحديا للنظام العالمي السائد، لا على المستوى الجيوسياسي والأمني فقط، ولكن أيضا على المستوى الفلسفي، على نحو يعطي الأمل في وجود أفق تفكيكي للحالة الاستعمارية في العالم الثالث، عبر تجاوز السرديات الغربية الكبرى، والمفاهيم والمبادئ الغربية مثل العلمانية والفردانية والليبرالية، التي يتم تقديمها على أنها قيم عالمية؛ الأمر الذي يعيد بدوره تشكيل الإمبريالية على صعيد آخر، ألا وهو الصعيد المعرفي والثقافي.

تتساءل الباحثة في جامعة بنسلفانيا آن نورتون، في كتابها حول “المسألة الإسلامية”، كيف أصبح المسلمون كائنات تجلب الخوف والرهبة، حيث كانت “المسألة اليهوديَّة” لفترة طويلة موضوعاً للقلق في الفكر السياسي الغربي في مرحلة ما بعد التنوير، فاليهود كانوا هم “الآخر” الذين تعذَّر إدماجهم مما شكَّك في نزاهة وشمول عقلانيَّة وعلمانيَّة النظريَّة والممارسة السياسيَّة الحديثة.

وحسب آن نورتون فإنَّ “المسألة الإسلاميَّة” قد نشأت بوصفها موضع قلق مماثل بشأن انعدام الأمن الوطني، وتهديد “لآخر” الأجنبي، والخطر على الديمقراطيَّة من اللاعقلانيَّة الدينيَّة المتعصِّبة. ومثل يهودي الحداثة، فالمسلم اليوم هو “مُتَخَيَّل” أكثر منه حقيقة واقعة، والتشوّهات الناتجة غير عادلة بالنسبة لأولئك المسلمين العاديين.

خلاصة القول أن إهانة المسلمين أحد مكونات الاستراتيجية الغربية لضمان ديمومة الهيمنة، وغايتها منع أي مقاومة تهدف إلى تشكل كينونة إسلامية مناهضة للمركزية الغربية، ولا تنفصل الأدوات والوسائل المادية والرمزية للهيمنة للغربية، إذ لم يكن ممكناً في الماضي ولا يمكن في المستقبل الفصل بين الكولونياليّة والإمبرياليّة والليبراليّة والعلمانيّة، فهي مكونات شكلت الذات والكينونة الغربية وطموحاتها الكونية بالهيمنة والسيطرة.

فقد لعبت الكولونياليّة دوراً مركزياً في نشأة وتطوّر الليبراليّة، وكان الإسلام حاضراً -ولا يزال- في لحظة تشكل الليبرالية، باعتباره نقيضاً معرفياً وخطراً جيوسياسياً على المركزية الغربية، فلم تكن الكولونياليّة والإمبرياليّة والعنصريّة التفوقية العرقية البيضاء مجرد آثار جانبية ضارة لمشروع الكونيّة الليبراليّة، وإنما سمة تأسيسية في تكوينيها وبنيتها.

المصدر: عربي21