لبنان على شفير فوضى شاملة..ما العمل؟

بقلم: عصام نعمان

أدرك رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي أخيراً أن ليس لدى ما تبقّى من دولة لبنان المهترّئة من المال ما يكفي للإنفاق، أقلّه، على الحاجات والضروريات المعاشية للبلاد والعباد.. لماذا؟ لأن حاكم مصرف لبنان المركزي بالإنابة وسيم منصوري أصرّ، خلافاً لسلفه رياض سلامة، على عدم إقراض الدولة مجدداً من دون قانون يجيز له ذلك. موقفُ منصوري الصارم مردّه إلى رفضه تحمّل مسؤولية إقراض الحكومة مما تبقّى للمودعين من ودائع بالدولار الأمريكي بضمانة الاحتياط الإلزامي لدى المصرف المركزي الذي يُراد إقراض الحكومة منه. هذا يعني أن رواتب وأجور موظفي القطاع العام والمتقاعدين والمتعاقدين والقوى العسكرية، بالإضافة إلى مصاريف الدولة وحاجاتها بالدولار الأمريكي لتغطية أثمان الأدوية وتمويل استيراد القمح تصبح غير متوافرة تماماً. إذا تعذّر على ميقاتي وسائر أركان المنظومة الحاكمة إيجاد مخرج من هذه الأزمة الجديدة المستفحلة، فإن البلاد تكون مهدّدة، بأن تصبح على شفير الوقوع في قاع الفوضى السحيق عند أول هزّة أمنية أو سياسية أو اجتماعية.
هل من مخارج ممكنة في ربع الساعة الأخير؟
ثمة اقتراحات وتوصيات بعضها جدّي، لكنه بعيد المنال، وبعضها الآخر أسهل منالاً لكنه مترع بكثير من المخاطر والتداعيات. أكثر المخارج جدّية وفعالية إصلاحاتٌ جذرية مستحقة، أهمها إقرار ميزانية عام 2023، والمباشرة في إعداد مشروع ميزانية العام المقبل، وإقرار قانون الكابيتل كنترول (قيود على خروج ودخول الأموال)، وإعادة هيكلة المصارف، لكن صعوبات جمّة تحول دون إقرارها في مجلس النواب، مع أنها مطروحة منذ ايام حكومة حسان دياب عام 2020. المخرج الأسهل منالاً، إقرارُ قوانين في مجلس النواب تجيز للمصرف المركزي إقراض الحكومة في حدودٍ مالية معيّنة مع ضمانات قانونية موثّقة بإيفاء ما تقترضه ضمن مدةٍ محددة، هذا المخرج يواجه أيضاً صعوبات في إقراره، بسبب تخوّف غالبية النواب من محاذير المسّ بودائع المودعين في المصارف المضمونة بالاحتياط الإلزامي لدى المصرف المركزي.. هكذا لا يبقى أمام الحكومة إلاّ «أبغض الحلال» وهو تمويل نفسها بطبع المزيد من مليارات الليرات والتسبّب تالياً بالمزيد من التضخم، أيّ بالغلاء الناجم عن توافر الكثير من الليرات التي تطارد القليل من السلع.

التضخّمُ المتصاعد سيعجّل، دونما شك، في تسريع وتيرة الفوضى في كل المجالات، الفوضى بدورها تؤدي إلى إضعاف سلطة الحكومة المركزية، الضعيفة أصلاً والمتراخية، مذّ استشرت الأزمات المتلاحقة مع انفجار (أو تفجير) مرفأ بيروت في 4 آب/أغسطس 2020. هذه الأزمات المتناسلة والفوضى المتزايدة الناجمة عنها ستؤدي إلى تحلّل وانحلال السلطة المركزية في كل الوحدات الإدارية، أيّ المحافظات والأقضية والمدن والبلدات والقرى التابعة لها. مع استشراء الفوضى الشاملة، أرى وأرجو أن أكون مخطئاً، أن الحزب الأقوى شعبياً ونفوذاً في كلٍّ من هذه الوحدات الإدارية، خصوصاً في الأقضية، ستكون له اليد العليا، على صعيدي السلطة والإدارة، في توجيه مقدراتها والنطق باسمها، الأمر الذي سيؤدي تالياً إلى قيام مجموعة من سلطات الأمر الواقع في هذه المناطق، تحاكي تقسيماً غير مقونن للبلاد برمتها. لأن الفوضى وتداعياتها ومخاطرها تبدو الآن التحدّي الأخطر الماثل، فقد أضحى أهل القرار، موالين ومعارضين، لاسيما قادة القوى الوطنية النهضوية، مطالَبين بأن يتحسّبوا ويستعدوا لمواجهة هذا التحدّي بكل وجوهه بلا إبطاء ومهما طال الزمن.. كيف؟ ليس أمراً صعب التحقيق أن يعي أهل القرار جميعاً الواقعات اللافتة المار ذكرها، وأن يتخذوا في ضوئها المبادرات الضرورية الآتية:
أولاً: إن استشراء الفوضى الشاملة سيفرز غالباً حالاً من التقسيم غير المقونن لمدة طويلة، ما يجعل الخروج من تداعياته المعقدة رهناً ببذل جهودٍ استثنائية كبيرة ومركّزة، واجتراح إرادة صلبة لإنجاح عملية المواجهة.
ثانياً: إن جميع الأحزاب والقوى السياسية الناشطة قليلاً أو كثيراً في البلاد، باستثناء حزب الله، أضحت منقسمة على نفسها، أو متشرذمة، كما أنها عاجزة أو مترددة في اتخاذ مواقف سياسية وطنية ثابتة من أجل المواجهة والتغيير.
ثالثاً: لا قدرة لدى أيّ حزب أو كتلة نيابية بمفردها على حشد وتعبئة قوى شعبية عابرة للطوائف والمناطق، وقادرة على إخراج البلاد من حال الانهيار والفوضى والانقسامات، التي ترتع فيها، الأمر الذي يستلزم قيام ائتلافات سياسية وطنية، واسعة، متماسكة وقادرة على توليد القدرات والمواقف والإرادات اللازمة للخروج من الأزمة المستفحلة.
رابعاً: إن أيّ ائتلاف بين قوى سياسية ملتزمة مطلب التغيير والخروج من نظام المحاصصة الطوائفي في اتجاه دولة المواطنة المدنية، يقتضي ليكون فاعلاً وناجحاً، أن يتسلّح ببرنامج متكامل للإصلاح السياسي منطلقه، تنفيذ أحكام الدستور المعدّل سنة 1990 لكونه يتضمن إصلاحات وثيقة الوفاق الوطني (الطائف)، وأن ينصّ على أولويات للمدى القصير، وأولويات للمدى المتوسط، وأولويات للمدى الطويل، وأن يحرص الناهضون به في نضالهم وعملهم السياسي، على اعتماد النهج الديمقراطي السلمي التدرّجي، لأن اللجوء إلى العنف في بلد تعددي يؤدي غالباً إلى حرب أهلية.
خامساً: يُستحسن في المرحلة الانتقالية الراهنة تفعيل التواصل والحوار بين القوى الوطنية المتماثلة في طروحاتها الإصلاحية، من أجل التوصل إلى توافق بشأن ملء الشغور في رئاسة الجمهورية، وتأليف حكومة جديدة ملتزمة مطلب تجاوز نظام المحاصصة الطوائفي، كما ملتزمة مطلب تنفيذ أحكام الدستور المعدل سنة 1990، وإجراء انتخابات جديدة على أساس قانون ديمقراطي للانتخاب، يؤمّن صحة التمثيل الشعبي وعدالته وفق الأسس الآتية:
الدائرة الوطنية الواحدة التي تشمل الجمهورية كلها.
نظام التمثيل النسبي.
(جـ) خفض سن الاقتراع إلى الثامنة عشرة.
(د) تصويت الناخبين والناخبات في أمكنة إقامتهم.
في ضوء هذه الواقعات والتطورات والتحديات الماثلة، لا غلوّ في دعوة ومطالبة اللبنانيين بأن يعوا تداعيات الفوضى الشاملة وأبعادها الكارثية، وأن يلتزموا، مسؤولين ومواطنين، النضال الديمقراطي الجدّي لتحقيق الأولويات التي يتضمنها برنامج الإصلاح السياسي- الاقتصادي – الاجتماعي الذي ينهض به ائتلافٌ للقوى الوطنية عابر للطوائف والمناطق وحاضن للشباب الوطني الملتزم مطلب الإنقاذ والتغيير. بهذا الالتزام الجاد يتمكّن اللبنانيون الأحرار من الخروج من حال العجز عن حكم أنفسهم، والسير قُدُماً على طريق بناء دولة المواطنة المدنية الحضارية.

المصدر: القدس العربي