الحُكم “الظالم” على إرهاب المستوطنين اليهود المعاصرين

بقلم: جوزيف مسعد

تزايدت التقارير عن المذابح والهجمات التي قام بها المستوطنون اليهود ضد الشعب الفلسطيني في الأشهر الأخيرة، مما دفع المتحدث باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي إلى وصف الظاهرة بأنها “إرهاب قومي” يهودي. وقد حذر رئيسُ المخابرات الإسرائيلية (الشاباك) بنيامين نتنياهو من أن “الإرهاب اليهودي” هو الذي يدفع بالفلسطينيين إلى الانتقام من مستعمريهم. حتى حكومة الولايات المتحدة، التي يعتبر دعمها للاستعمار اليهودي أسطورياً، قد ذهبت إلى حد وصف هجمات المستوطنين بـ”الإرهاب”.

وفي حين أعربت عدة منظمات يهودية أمريكية عن رعبها وإدانتها للمذابح التي يتعرض لها الفلسطينيون، فإن صحيفة نيويورك تايمز المتطرفة في صهيونيتها تحدثت فقط عن “الهجمات الانتقامية” المزعومة، أو عن “عنف” المستوطنين الذي يستهدف الفلسطينيين لأنهم تجرأوا على مقاومة مستعمريهم اليهود.

وقبل أيام قليلة، وبينما كانت الحكومة الإسرائيلية تتخذ إجراءات لدعم السلطة الفلسطينية حتى تتمكن السلطة من مواصلة حملتها لقمع مقاومة الشعب الفلسطيني للاستعمار اليهودي، كانت السلطة الفلسطينية منشغلة بإقامة مزاد علني لبيع لوحات سيارات بأرقام مميزة استعراضية لفئة رجال الأعمال الفلسطينيين المقيمين في الضفة بأسعار تصل إلى 250 ألف دولار. في تلك الأثناء، قام مستوطن يهودي بدهس صبي فلسطيني يبلغ من العمر أربع سنوات بسيارته في تل رميدة بالقرب من الخليل، وهو هجوم لم يشكل مصدر قلق كبير للسلطة الفلسطينية. وبعد ذلك بيومين، دهس مستوطن يهودي آخر طفلاً فلسطينياً آخر في الرابعة من عمره شرقي بيت لحم. وهذا ليس إلا جزءاً من الهجمات الإرهابية المستمرة التي يشنها المستعمرون اليهود منذ عقود في الضفة الغربية وغزة، والتي وصفتها صحيفة “هآرتس” الليبرالية بأنها على غرار العنف الذي تشنه منظمة “الكو كلكس كلان” العنصرية ضد غير البيض في الولايات المتحدة.

لكن هل المستوطنون اليهود اليوم، بالفعل، أكثر قسوة وعنفاً مما كانوا عليه منذ عام 1967، أو أن إرهابهم غير مسبوق مقارنة بالمستوطنين اليهود قبل قيام دولة إسرائيل؟

صحيح أن إرهاب المستوطنين اليهود الذي يستهدف الفلسطينيين، لا سيما استهدافهم للأطفال الفلسطينيين، قد ازداد بشدة في عام 2023، إلا أنه لا يمثل ظاهرة جديدة، بل يعود إلى الأيام الأولى للاستعمار الصهيوني ما بعد عام 1967، وخاصة منذ النصف الثاني من السبعينيات وما تلاه. فعلى سبيل المثال، أطلقت إحدى مجموعات المستوطنين الإرهابية الرئيسة، المؤلفة في الغالب من مستوطنين يهود أمريكيين، والتي هاجمت وقتلت الفلسطينيين في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، على نفسها اسم “الإرهاب ضد الإرهاب”. وقد كانت الجماعة من أتباع الحاخام العنصري الأمريكي مئير كهانا، وبرزت أيضاً مجموعة أخرى من المستوطنين المتعصبين اسمها “غوش إيمونيم” (أو “كتلة المؤمنين)” هاجمت الفلسطينيين في ذات الفترة، وكانت “غوش ايمونيم” متخصصة في تفجير السيارات والاغتيالات.

ومن بين الجماعات الإرهابية الأخرى للمستوطنين جماعة “إيغروف ماجن” وجماعة “الثورة”، وقد تخصصت الأخيرة في مهاجمة المسيحيين الفلسطينيين وكنائسهم. وتهدف هجمات المستوطنين على الفلسطينيين المسماة “بطاقة الثمن” إلى “تدفيع” الفلسطينيين “ثمن” مقاومتهم للاستعمار اليهودي للأراضي الفلسطينية، وقد توسعت رقعة هذه الهجمات في الألفية الجديدة.

ولم يسلم الأطفال الفلسطينيون من عنف الإرهاب اليهودي. ففي عام 1979، جاء مستوطنون يهود من مستعمرة كريات أربع لمساعدة الجيش الإسرائيلي في قمع الفلسطينيين وقتلوا خلال هذه العملية صبيّين فلسطينيّين. وقد كانت الهجمات على الفلسطينيين بسيارات المستوطنين التي تدهس الفلسطينيين وتولي بالفرار بعدها سمة مهمة لإرهاب المستوطنين اليهود، لا سيما استهداف الأطفال. ففي أيلول/ سبتمبر 2011 قام مستوطن بدهس صبي فلسطيني يبلغ من العمر ثماني سنوات في الخليل. وبحسب منظمة اليونيسف، أصاب المستوطنون 18 طفلاً (13 فتى و5 فتيات) في عام 2012، بينما جرح الجيش الإسرائيلي 21 طفلاً في حوادث متعلقة بالمستوطنين.

ولنأخذ مثالاً عشوائياً من وثائق الأمم المتحدة التي تخبرنا بأنه في شهري آب/ أغسطس وأيلول/ سبتمبر فقط من عام 2014 وتحديدا “في 25 أيلول/ سبتمبر، دهس مستوطن فتاة فلسطينية تبلغ من العمر 10 سنوات في سلوان؛ وفي 17 آب/ أغسطس، لقي فلسطيني حتفه بعد أن صدمته سيارة مستوطن إسرائيلي في القدس الشرقية المحتلة. وبتاريخ 14 آب/ أغسطس، صدمت سيارة مستوطن يهودي فلسطينيا آخر. وفي 7 آب/أغسطس، دهس مستوطن طفلة فلسطينية تبلغ من العمر 8 سنوات في جنوب الضفة الغربية”.

في عام 2015، قام مستوطنون بحرق رضيع فلسطيني يبلغ من العمر 18 شهراً حتى الموت، عندما أشعلوا النار في منزل عائلته في دوما. في عام 2016 دهس مستوطن يهودي فتاة فلسطينية تبلغ من العمر ست سنوات في قرية الخضر وقتلها. وقام مستوطن آخر يبلغ من العمر 65 عاماً بدهس فتاة فلسطينية عمداً في حزيران/ يونيو 2017 وقتلها، بينما دهس مستوطن آخر فتاة أخرى تبلغ من العمر ثماني سنوات في آب/ أغسطس وقتلها أيضاً. وقد قتل مستوطن طفلا في السابعة من عمره عام 2019 عندما دهسه في الخليل. وفي عام 2020 صدم مستوطن بسيارته طفلاً فلسطينياً بالقرب من سلفيت وولّى بالفرار. في عام 2021، أصيب طفل فلسطيني يبلغ من العمر ثلاث سنوات وشقيقه البالغ من العمر ست سنوات بجروح خطيرة عندما هاجم مستوطنون سيارة أسرتهم بالقرب من رام الله. وفي عام 2022 دهس مستوطن طفلاً فلسطينياً يبلغ من العمر تسع سنوات وولى بالفرار. وفي كانون الثاني/ يناير 2023 دهس مستوطن طفلة فلسطينية تبلغ من العمر سبع سنوات بالقرب من قلقيلية.

وهذا عدا عن اقتلاع آلاف الأشجار في الأراضي الفلسطينية، وقلع أشجار الفلسطينيين هو من اختصاص المستوطنين اليهود والجيش الإسرائيلي على حد سواء، خاصة منذ عام 1967.

نظراً لأن بعض هذه الهجمات المروعة قد نالت نصيبها من الإدانة في بعض الأوساط الليبرالية في الصحافة الغربية والإسرائيلية، يبدو أن هناك قدراً من التحيز والظلم الصهيوني الليبرالي والمؤيد لإسرائيل في الحكم على إرهاب هؤلاء المستوطنين المعاصرين بشكل أكثر قسوة وشدة، بينما في الواقع ارتكب أسلافهم الصهاينة في الثلاثينيات والأربعينيات جرائم مروعة أكثر مما ارتكبوه. لكن الصهاينة الليبراليين لا يزالون يحتفون بهؤلاء الأخيرين. في الواقع، حتى هجمات الدهس التي تستهدف الأطفال الفلسطينيين هي ليست أكثر من تكتيكات يحاكي المستوطنون الحاليون من خلالها الرواد الصهاينة الإرهابيين الذين ابتكروها أصلاً.

ففي ربيع عام 1935، بدأت تصدر تقارير بريطانية عن وحشية “السائقين اليهود الذين يمرون وسط القرى العربية”. فقد أفاد أحد المسؤولين البريطانيين برواية شاهد عيان بريطاني كان قد رأى “سائقاً يهودياً يدهس طفلاً عربياً، وبعد ذلك يدفع جسد الطفل المقتول بعيداً عن الطريق، ومن ثم يتابع رحلته قبل أن يتمكن أي شخص من توقيفه”. وقد كانت هنالك “عدة روايات مماثلة لهذه الحوادث”.

أما اقتلاع المستوطنين للأشجار التي زرعها الفلسطينيون، فهي من أقدم التقاليد الاستيطانية الصهيونية في فلسطين. فعندما اكتشف المستوطنون اليهود في عام 1908 أن غابة أرادوا تكريسها لذكرى مؤسس الصهيونية ثيودور هرتزل قد غَرَس أشجارها فلسطينيون، اقتلعوا جميع الشتلات وأعادوا زرعها من جديد، كي يقال بأن اليهود هم من زرعها.

وعندما بدأ المستوطنون الصهاينة بالاعتداء على المدنيين الفلسطينيين في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، كان من بين الضحايا أطفال فلسطينيون. ومن أشهر هذه الهجمات كان تفجير الصهاينة لمقاهٍ فلسطينية بالقنابل اليدوية (مثلما حدث في مدينة القدس في 17 آذار/ مارس 1937)، ووضع ألغام موقوتة كهربائياً في أسواق مزدحمة (استخدمت لأول مرة ضد الفلسطينيين في حيفا في 6 تموز/ يوليو 1938). وفي حين أن هذه الجرائم قد تشبه بعض هجمات المستوطنين اليهود المعاصرين، إلا أن الأخيرين لم يرتكبوا مذابح على مستوى الأجيال السابقة من المستوطنين اليهود.

فقد فجرت مليشيات المستوطنين الصهاينة (الهاغاناه) على سبيل المثال سفينة “باتريا” الراسية في ميناء حيفا في تشرين الثاني/ نوفمبر 1940، مما أسفر عن مقتل أكثر من 260 لاجئاً يهودياً وعدداً من أفراد الشرطة البريطانية. وقد اغتال مستوطنون يهود آخرون مسؤولين في الحكومة البريطانية؛ وأخذوا مواطنين بريطانيين رهائن؛ وقاموا بتفجير مكاتب حكومية قتل فيها موظفون ومدنيون؛ وقاموا بتفجير السفارة البريطانية في روما (1946)؛ وقاموا بجلد وقتل الأسرى من الجنود البريطانيين؛ كما قاموا بإرسال رسائل وطرود مفخخة إلى مسؤولين بريطانيين في لندن، من بين جرائم أخرى كانوا قد ارتكبوها.

وقد كان مناحيم بيغن، رئيس وزراء إسرائيل المستقبلي، العقل المدبر لعدد من هذه الهجمات. فبعد أن ذبحت جماعته أكثر من مائة فلسطيني في قرية دير ياسين في نيسان/ أبريل 1948، أصبح اسمه مرادفاً للإرهاب. وقد وصف ألبرت أينشتاين وحنة أرندت، وآخرون، مجموعة بيغن بأنها ليست “منظمة إرهابية يمينية شوفينية” فحسب، بل بأنها “قريبة جداً من.. الأحزاب النازية والفاشية”. لكن المليشيا الاستيطانية الرسمية للحركة الصهيونية، أي الهاغاناه، كانت قد ارتكبت مذابح أسوأ بكثير خلال تلك الفترة، ولكن يبدو أنها لم تكن تستحق الإدانة حينئذ أو اليوم من قبل الصهاينة الليبراليين ومؤيديهم.

ففي كانون الأول/ ديسمبر 1947، استهدفت إحدى أولى هجمات الهاغاناه (وقد تشكل جيش إسرائيل بعد تأسيس الدولة من هذه المليشيا) -والتي أصبحت نموذجية في هذه الفترة- قرية الخصاص الفلسطينية في الجليل، مما أسفر عن مقتل أربعة مدنيين وأربعة أطفال فلسطينيين. وثبت أن هذا الرقم ضئيل مقارنة بعمليات القتل الجماعي اللاحقة التي كانت تنتظر الشعب الفلسطيني. ففي قرية الدوايمة، على سبيل المثال، ارتكبت الهاغاناه مجزرة في تشرين الأول/ أكتوبر 1948، قتلت فيها أكثر من 100 فلسطيني. وقد شملت الحرب الإرهابية على الفلسطينيين في عام 1948 اغتصاب وقتل أعداد كبيرة من النساء الفلسطينيات.

فلا شيء اقترفه المستوطنون المعاصرون منذ إعلانهم الحرب على الشعب الفلسطيني قبل خمسة عقود يقترب من هذه الأرقام، ناهيك عن مستوى الهمجية التي ارتكبها المستوطنون الصهاينة في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي. الاستثناء الوحيد في حالة المستوطنين المعاصرين هو مذبحة المسجد الإبراهيمي التي ارتكبها المستعمر الأمريكي اليهودي بيني (المعروف باسم “باروخ”) غولدستين في عام 1994، والذي قتل 29 مصلياً فلسطينياً داخل المسجد، لكن مجزرته تتضاءل بالمقارنة مع العديد من الحملات الإجرامية ضد الفلسطينيين التي شنها الجيش الإسرائيلي بعد عام 1948، والتي تشمل مذابح قبيه وغزة وخان يونس وكفر قاسم في بداية ومنتصف الخمسينيات، ناهيك عن المذابح التي تلت.

لا تهدف هذه المقارنات التقليل من الرعب الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني من قبل المستوطنين- الاستعماريين الصهاينة في الضفة الغربية والقدس الشرقية اليوم، إنما تسعى للكشف عن تاريخ الإرهاب الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني منذ بداية المشروع الصهيوني، حيث إن المستوطنين اليهود الإرهابيين اليوم هم بالفعل نسخة أكثر اعتدالاً من أسلافهم، على الرغم من أنهم يواصلون نفس التقليد الاستعماري، الذي نتيجته يُحكم عليهم بشكل غير عادل من قبل المدافعين عن الإرهاب الصهيوني السابق، بما في ذلك كبار الجنرالات الإسرائيليين.

يُعرف المستوطنون الاستعماريون اليهود في فلسطين قبل عام 1967 باللغة العبرية بمصطلح “متياشفيم”، أي “مستوطنين”، بينما يطلق المستعمرون بعد 1967 على أنفسهم اسم “متناحليم” أو “ورثة الآباء” الذين أورثوهم أرض فلسطين، والتي يطلقون عليها اسم “نحلات آفوت” أو “أرض وميراث الآباء”. يسعى الصهاينة الليبراليون للتمييز بشكل رئيس بين تلكما المجموعتين من المستوطنين الاستعماريين، لكن بالنسبة للشعب الفلسطيني، فليس هنالك ما يميز القسوة الاستعمارية- الاستيطانية لكلا المجموعتين وإرهابهما، إلا بقدر ما يبدو أن المستوطنين المعاصرين، بغض النظر عن الرأي الصهيوني الليبرالي المنتشر عنهم، أقل قسوة بكثير من أسلافهم، على الأقل حتى اللحظة.

إن ما نشهده اليوم من إرهاب المستوطنين ليس في الواقع سوى نسخة أكثر اعتدالاً من الجرائم التي سرق المستعمرون الصهاينة من خلالها وطن الفلسطينيين، وعلى الصهاينة والليبراليين الموالين لإسرائيل في الغرب الذين يجدون إرهاب المستوطنين الحاليين غير مستساغ أن يراجعوا تاريخ الصهيونية المليء بالفظائع قبل إصدار حكمهم الأخلاقي الظالم على مستوطني الحاضر.

المصدر: عربي21