ضعف الاعتماد على الزراعة انعكس سلبا على الاقتصاد العربي
أمة لا تضمن قوت يومها.. إذن، هي أمة لا تضمن مستقبل أيامها. هذا هو ملخص الحالة التي تعيشها الأمم المستهلكة، التي لا تنتج ما يكفي احتياجاتها، سيما في مجالات الزراعة والغذاء. ومن بينها أمتنا العربية ودول الخليج، فالخلاف على أننا أمة مستهلكة وغير منتجة شبه محسوم، والحقائق الثابتة تؤكد أننا نستورد أغلب منتجاتنا الغذائية من الخارج بأسعار باهظة تدفعها حكوماتنا ومؤسساتها سنويا، إضافة إلى الشركات التجارية والاستثمارية التي تعمل في هذا الإطار بصورة احتكارية شبه مقننة في غالب الأحوال؛ فتسبب ضرراً كبيراً للمستهلكين على كل المستويات والطبقات الاجتماعية. وبصورة خاصة، يكون غير القادرين والفقراء والمتعطلون هم الفئة الأكثر ضرراً والضحية الدائمة لهذه المشكلات.
فهل أدل وأعظم من أن أزمة القمح العالمية القائمة، تدّعي الكثير من الدول ـ وادعاؤها صحيح ولا نقاش فيه ـ بأن الارتفاع الرهيب وغير المقبول في أسعاره هو بسبب الصفقات الكبيرة جداً التي تجريها وتستوردها مصر، إضافة إلى الجزائر في العام الأخير، عدا عن الجفاف الذي يضرب بعض البلدان المنتجة كروسيا، ويقلل من حصتها الإنتاجية التي تُصدر للخارج.
ومصر في هذه المنظومة الاستهلاكية تعتبر المستورد الأكبر للقمح في العالم، ومع هذا يقع 21.7% من سكانها (عام 2009) تحت خط الفقر والحاجة اللعينة، حسب تقارير حكومية صادرة عن مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار، التابع لرئاسة الوزراء المصرية، وهذا التقرير يعتبر من أكثر التقارير تفاؤلاً على الإطلاق.
ويدّعي خبراء اقتصاديون واجتماعيون على درجة كبيرة جداً من الوعي والخبرة هناك بأن الدعم الذي يُقدم في هذا الإطار سيؤدي دوراً ناجعاً للتخلص من التبعية الاستهلاكية للدول المنتجة، كما أن هذا الدعم سيعمل على الاكتفاء الذاتي، ودرء الفقر، والقضاء على البطالة، إذا دخل مباشرةً في عملية الإنتاج الزراعي عموماً، وإنتاج القمح خصوصاً.
كما أنه سيعيد هيكلة وتوزيع السكان، ويقضي على العشوائيات حول القاهرة الكبرى وبعض المدن، والتي تقدر أعداد ساكنيها بأكثر من 12 مليونا، وذلك في حالة الانطلاق نحو الصحراء للعمل في الزراعة والعمران.
ولكن قد ندعي نحن العرب، كمجموعة متكاملة وموحدة تحت مظلة الدين واللغة في الوطن الكبير الممتد من الخليج للمحيط، لندرأ عن أنفسنا شرف الخوض في هذا المعترك، قد ندعي بأننا نعاني من نقص حاد في مصادر المياه الطبيعية، بما يؤثر تأثيراً مباشراً على عملية الإنتاج الزراعي، الذي يعتبر المصدر الأول للغذاء والكساء على وجه الأرض.
ولكن مع التكنولوجيا الحديثة، واستخدام الآلات المتطورة؛ فإن المشكلة تبدو أقل صعوبة، فكل ما هنالك أن نستسهل الأمر، وهو بأي حال من الأحوال ليس بالهين في ظل متغيرات عالمية وإقليمية تجري من حولنا، تحتم علينا أن ننحاز إلى الدعوات والنظريات التي تدعونا إلى أن ندخل أجندة حفر الآبار وشق الترع والأنهار والإنتاج الزراعي إلى منظومتنا الإنتاجية لتبدو بلادنا، التي تزحف نحو النمو الاقتصادي، منطقة متكاملة ومتماسكة.
وفي أمر المياه والزراعة، قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: (سبع يجري للعبد أجرهن وهو في قبره بعد موته: من علم علما، أو كرى نهرا، أو حفر بئرا، أو غرس نخلا، أو بنى مسجدا، أو ورث مصحفا، أو ترك ولدا يستغفر له بعد موته). أخرجه البزار وأبو نعيم.
وللشيخ زايد في هذا المعترك علامات بارزة على نهر النيل في مصر؛ فلا تزال تروى باسمه الطيب الآلاف من الفدادين على الترع التي شقت على نفقته الخاصة على نهر النيل في مصر، والآلاف يعملون، ويزرعون ويحصدون من أجل الأمة.
ومن الطبيعي أن تكون هناك دعوات عالمية من منظمات دولية في مثل هذا الوقت الصعب للعمل على مواجهة أزمة الغذاء العالمية، وإطعام الفقراء، ودعمهم وتشغيلهم ـ أيضاً ـ عن طريق الاستثمار الخيري والإنساني في المجالات الاقتصادية، وعلى رأسها الزراعة والإنتاج الحيواني، فالتقارير الصادرة عن البنك الدولي تؤكد أن 40 مليونا من سكان العالم قد سقطوا في هاوية الفقر بسبب ارتفاع الأسعار في الأشهر الأخيرة.
وأشار إلى هذا الوضع "بول لارسن"، مدير العلاقات المتعددة الأطراف لبرنامج الأغذية العالمي، وقال: "إن الوضع خطير للغاية، هناك حاجة ماسة للاستعجال، فالعالم يعلم المخاطر، والمجتمع الدولي والأمم المتحدة والمؤسسات المالية على علم بالوضع، ولكنها لا تستطيع العمل وحدها".
ومؤسساتنا الخيرية العملاقة، وبما فيها من شخوص مؤثرة، تستطيع أن تستقطب الكثير من المتفاعلين مع هذه القضية المصيرية؛ قضية الاستثمار الخيري في مجالات الزراعة. ولدى بلداننا من الإمكانات الطبيعية ما يؤهلها أن تكون في صدارة الدول التي تكافح الفقر وتكتفي ذاتياً من الغذاء، بل و عندما تحدث الوفرة تستطيع أن تقدم معونات إنسانية للكثير من محتاجي العالم من حولنا؛ فلدينا ملايين الهكتارات والفدادين من الأراضي القابلة للزراعة، ولدينا الأنهار والأمطار (على قلتها)، والمياه الجوفية، وكذلك تكنولوجيا الأمطار الصناعية، التي بدأت تجربتها في الآونة الأخيرة في مدينة العين الإماراتية، بما يعزز أهمية ومكانة الاستثمار الخيري في الزراعة في السنوات المقبلة.
ولذا؛ فإنني أعتبر أن الحجج التي تثبط الهمم، وتقلل من عزم الخيرين من الرجال والشباب والنساء، حججاً واهية، ولكن الأمر فعلاً يحتاج مبادرة فعلية، فقد حبا الله منطقتنا بالكثير من الميزات والموارد، ولا أقل منها تلك الأراضي الشاسعة والصحارى الواسعة القابلة للزراعة والعمران، لكنها تحتاج ـ فقط ـ لغزاة ذوي قلوب مستنيرة بنور الحق وحجته، ليبذروا فيها فتنمو بالخير الوفير الذي يرفع عنا بؤس العوز ومرارة الاحتياج، مع قناعتنا التامة بأننا لا زلنا نتمتع في أصعب الأحوال بالوفرة الاقتصادية التي تجعلنا قادرين ـ بلا شك ـ على الاستيراد من الخارج في أحلك الأحوال، ولكن الهدف في الحقيقة أكبر من هذه المكابرة.
ما أهمية أو ضرورة تدخل المؤسسات الخيرية في العملية الإنتاجية عموماً، والزراعية خصوصاً؟
في الحقيقة هناك ضرورات، بل حتميات آنية، هي التي تحتم علينا أن ننادي أو نقترح هذه الدعوات وتلك النظريات، كما أن للأمر مرجعيته من صلب تعاليم الإسلام وأحاديث النبي الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ لقوله الشريف: (ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة، إلا كان له به صدقة). رواه البخاري ومسلم.
ومنها مثالاً لا حصراً:
1- مساعدة الحكومات التي صارت تواجه أعباء كثيرة ستجعلها، إذا لم تجد المساعدة الفعلية من المؤسسات الخيرية ومؤسسات المجتمع المدني، في دعم المنظومة الاستهلاكية المدعومة بآلاف المليارات، في مقابل دعم شبه موجود في قطاعات أخرى كالتعليم والصحة و البنى التحتية.
2- ازدياد نسبة الفقر في أوطاننا بمعدلات غير طبيعة؛ نظراً لارتفاع عدد المواليد، وفي المقابل ضعف وقلة الإمكانيات والقدرات الإنتاجية، وارتفاع نسبة البطالة، والمشكلات الاجتماعية الناتجة عن ذلك، وتآكل الطبقة الوسطى التي تشكل ركيزة استقرار المجتمعات الإنسانية على ظهر الأرض. فعلى المؤسسات الخيرية أن تتدخل إيماناً منها بقدرتها على خوض هذا المعترك من أجل فقراء الأمة وعجزتها ومتعطليها، الذين تتزايد أعدادهم بصورة بالغة.
3- المساهمة الحقيقية في خلق وإيجاد فرص عمل بشكل مباشر، والقضاء على جزء مهم من مشكلة البطالة.
آلية تنفيذ هذه المقترحات: هذه المقترحات تحتاج
أولاً: داعمين خيرين أكثر وعياً بما حض عليه الإسلام في القرآن والسنة، وبما صارت تعانيه الأمة من مشكلات ومعضلات تتراكم يوماً تلو اليوم، ويكون الإنسان البسيط والفقير هو الضحية، كما أن ارتفاع وازدياد الأسعار في السلع الغذائية خصوصاً صار عبئاً ثقيلاً على كواهل الدول والحكومات، لن يقضي عليه سوى الإنتاج في الداخل.
ثانياً: تحتاج إلى الدعوة بكل السبل لتطبيق سنن إسلامية وثقافات تراجعت كثيراً في الوقت الأخير، كثقافة الوقف الخيري، ووقف الأراضي الزراعية والبساتين، وحفر الآبار، وشق الترع على الأنهار الموجودة في أراضي العرب والمسلمين، في مقابل الدعوة للتصدق العابر، وفي كل خير دائم بعون الله، ولكننا نصبو من هذا الأمر إلى الأكثر نفعاً للمسلمين على المدى الطويل.
ثالثا: يحتاج الأمر ـ أيضاً ـ إلى عدم التقيد بحدود الدول أو المنطقة كلما أمكن، وكلما حل فيه المصلحة والنفع عموماً، للمساهمة في هذه العملية الإنتاجية الخيرية، خاصة إذا كانت مواردنا الطبيعية ـ كما يدعي البعض ـ غير مؤهلة، كطبيعة الأرض، ونقص المياه، واستحالة حفر الآبار التي تعوق عملية الزراعة والإنتاج، والانطلاق لمصلحة الفقراء للإنتاج في الدول المؤهلة لذلك، عن طريق الاستثمار الخيري المباشر، خاصة ونحن في وقت رأسمالي، الحدود فيه مفتوحة، وحرية التنقل والإنتاج في كل بلدان العالم متاحة، والمثال على ذلك أن الحكومة المصرية تقوم بزراعة وإنتاج القمح لصالح مواطنيها في بعض الدول الأفريقية وكندا دون عوائق.
رابعاً: يحتاج الأمر إلى أن تساهم الجمعيات والمؤسسات، إضافة إلى الحكومات، بإعادة تجميل المدن بأشجار ونباتات مثمرة، تدر النفع، وتشبع الفقراء، والمثال في هذا واضح، فأغلب مدننا في الخليج زينتها هي أشجار النخيل المثمرة، ولقد حث الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ على غرس النخيل، كما في الحديث السابق، وحث على الاستكثار من ثمره، فقال: (يا عائشة، بيت لا تمر فيه جياع أهله). رواه مسلم.
وقد حث رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ على الغرس والزراعة، حتى في أشد المواقف وأصعبها، فقال: (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليفعل). رواه أحمد.
والموقف الإنساني الآن في أوطاننا في مجال الغذاء وتأمينه، وإن كان لا يدعونا إلى التفاؤل، فإنه يدعونا للعمل والإنتاج الزراعي، خاصة في الحبوب.
المصدر: المركز الدولي للأبحاث والدراسات – مداد
الرابط المختصر https://insanonline.net/?p=69930