أرشيفية
عملية اختيار المجال الاستثماري في منظومة الاستثمار والتنمية الخيرية، التي تصبو إليها الجهات الخيرية المتعددة والمتنوعة في أوطاننا وحول العالم، من أجل توسيع آفاق الدعم للفئات التي ترعاها خصوصاً، وتأمين مصادر تمويلية دائمة لا تنقطع أو تتذبذب تحت وطأة أي ظروف أو أي تداعيات، ومن أجل الوصول إلى الكفاف والرقي الاجتماعي عموماً، ليست عملاً عشوائياً أو بديهياً غير منظم، يخضع مباشرة لمجرد التحمس والهوى العابر نحو أي قطاع أو لأي من المجالات المتاحة أو المتعارف عليها، أو حتى تلك التي حققت مكاسب فعلية بدون دراسة واعية وإعادة تقييم من قبل فريق من المتخصصين لديهم القدرة على إجراء دراسات الجدوى الاقتصادية بشكل يعمل العقل والرؤية الراجحة المتزنة، خاصة إذا كان المجال الذي ستخوضه الجهة الخيرية من المجالات التي تتطلب وجود مصادر تمويلية دائمة وكبيرة، وهو ما يضع قيودا أكثر صرامة من أجل ضمان عدم المجازفة بهذه الأموال التي خرجت من أجل وجه الله تعالى وفي سبيل الخير، ومن أجل سد حاجات قطاعات إنسانية أكثر حاجة وفقراً ومرضاً، وذلك بما يخالف طبيعة المجالات الاستثمارية في الاقتصاد الحر؛ حيث إنها مجالات واسعة ومتعددة، ولكنها في الاستثمار الخيري، الذي يعتمد على هذه الأموال التي استقطعت من أجل الفقراء والمعوزين والمحتاجين، فإن هناك معايير أخرى غير المعتمدة في الاستثمار الحر.
عموماً، هي التي تتحكم في مسألة اختيار المجال والقطاع الاستثماري الذي ستخوض فيه الجهة الخيرية رحلتها الاقتصادية الإنسانية بطريقة علمية ودقيقة ومأمونة المخاطر، بشكل تضمن فيه النجاح وتحقيق المكاسب المادية والمالية، إضافة إلى المكاسب المعنوية التي ترجوها، وتتجنب كافة أنواع الخسائر والمجازفة بالأصول، ومن ثم تأدية الرسالة الخيرية بصورة إيجابية وبناءة ومتكاملة غير منقوصة.. ويكفينا أن نذكر نجاح تجربة الاستثمار في البلاد غير الإسلامية وفق قوانين الشريعة الإسلامية، مشيرين إلى أن نجاح الوقف في البلاد الغربية استطاع أن يصل بأصول أموال الأوقاف والجمعيات الخيرية إلى أكثر من 20.7 مليار دولار، حيث قام بتطويرها مجموعة من رجال الأعمال المسلمين في مدينة "برمنغهام" في بريطانيا، بسبب سعيها الحثيث نحو تطوير آليات إدارة أعمالها بطريقة أكثر احترافية(1).
والمعايير غير العادية التي يبنى عليها الاستثمار الخيري تتحكم فيها ـ بطبيعة الحال ـ طبيعة المال الخيري، والغرض الذي استقطع من أجله، وضرورة أن يبقى على الدوام قادراً على أن يؤدي تلك الرسالة الإنسانية السامية، لا يعوقه دخول جزء من هذه الأموال في أي مجال استثماري، بل إن الأمر برمته سيولد آمالاً في نهاية كل دورة استثمارية تخوضها الجهات الخيرية من خلال المجالات والقطاعات التي ستخوض فيها التجربة إلى إحداث نتائج أكثر إيجابية تُحدث النتائج الفارقة في حياة الفئات التي ترعاهم، وفي حياة المجتمع، وفي حياة الجهة الخيرية التي سعت إلى الاستثمار وخاضت تجربته.. والمعايير التي تحدد للجهات الخيرية تتشابه بعض الشيء مع المعايير التي يمكن أن يبنى عليها كافة أشكال الاستثمار، ولكنها تختلف من جهة خيرية إلى أخرى، ورؤيتنا لها كالتالي:
·القدرة المادية.
·والقوة أو الضعف التمويلي.
فالقدرة المادية، ووفرة السيولة التمويلية، تعتبر من أهم وأقوى الدوافع التي تدفع الجهات الخيرية في الدخول في مجالات الاستثمار الأكثر قوة وثقلاً، والأكثر أهمية وجدوى ونفعا وربحاً أيضاً، بما ينعكس على الفقراء وعلى المجتمعات عموماً؛ فيؤدي إلى انتعاش اقتصادي كبير تبعاً لذلك، و لاستقرار الأسواق والأسعار. والقدرة التمويلية الكبيرة هي التي تعطي الثقة التي تجعل العاملين على الاستثمار الخيري في الجهات الخيرية التي تسعى لذلك على يقين بأنهم ليس لديهم المعوقات التمويلية التي تجعلهم يتخوفون من خوض تجارب قد تفشل بعد وقت قصير لمثل هذه الأسباب. والقدرات التمويلية الكبيرة عكس الضعف التمويلي، وتساوي توافر كافة الإمكانيات اللازمة للنجاح المؤكد من قوى بشرية من خبراء وعاملين مدربين، وآلات، وأماكن للإنتاج، وقدرة على التسويق والإعلان، وغيرها من أدوات الإنتاج المطلوبة لذلك.
والقدرات التمويلية هي التي تميز بين جهة خيرية قوية وجهة أخرى ضعيفة، ويعتبر المجال الاستثماري هو الواجهة التي تميز بين جهة خيرية قوية مادياً وأخرى في حاجة لمزيد من الدعم لتسير على ذلك الدرب المهم، لتقدم الأفضل الذي ترتجيه للفئات التي ترعاها، فالمجالات التي قد تتناسب مع مؤسسات الوقف بقدراتها المادية والتمويلية الكبيرة في أغلب الدول الإسلامية المهتمة بالأوقاف الإسلامية وأمور تنميتها، وانتهاجاً نهجاً واضحاً في هذا الدرب، ربما لا تتناسب مع المجالات التي تسعى إلى العمل فيها جمعية خيرية بسيطة أو ناشئة، بما يعوقها من مشاكل تمويلية قد تواجهها في استكمال مهمتها ودورها الإنساني الأساسي الذي قامت من أجله.. ولذلك تعتبر القدرة المالية من أحد أهم وأقوى الأسباب التي تبني عليها الجهات الخيرية خططها الاستثمارية واختياراتها لمجالات تنموية معقدة أو طويلة المدى، كالدخول في القطاع العقاري والإنشاءات، التي قد يتخذ أمر الانتهاء منها عددا من السنوات.
الهيكلة الإدارية
إن الهيكلة الإدارية القوية، ذات البناء المؤسسي القوي والمحكم، بما فيها من إدارات وهيئات متخصصة في العلوم الإنسانية المختلفة، بما فيها علوم التنمية الاقتصادية والاستثمار، إضافة إلى القدرات المادية الكبيرة، ستكون أكثر قدرة على اختيار أفضل وأهم المجالات التي تستطيع من خلالها النجاح وتحقيق الربح الذي يصب في صالح قطاعات الفقراء والمحتاجين التي تنشأ وتقوم هذه الجهات من أجلهم.. فالأمر في مؤسسات قوية ـ كمؤسسات الوقف والزكاة ـ من الناحية الإدارية يختلف كثيراً عن التركيبة الإدارية لمستوصف طبي خيري، فشتان بين الفارق؛ فهنا تملك هذه الجهات الإمكانيات التي تجعها تخطط وتقرر، وتدخل المنافسة، وتعمل، وتنتج، وتقيّم الأداء، وتراقب، وتواصل تأدية رسالتها دون خلل أو تراجع أو تداخل بين العمل الاستثماري والعمل الخيري، عبر أداء مؤسسي راقٍ ومتكامل.. وفي الجانب الآخر، فإن الأمر مختلف تماماً؛ فهنا لا تملك هذه الجهات، ذات التركيبة الإدارية البسيطة، الإمكانات التي تؤهلها أو تشجعها على خوض هذه المهمة ذات الأبعاد الإنسانية والتنموية المهمة جداً في هذا الوقت الراهن؛ ولذلك سيقتصر دورها على الأداء التقليدي، دون التطلع أو الطموح للأفضل، فاتساع الهيكلة الإدارية معناها اتساع الرؤية، وتزايد المقترحات، وتوزيع الأدوار، واختيار المجال الأكثر نفعاً وجدوى والأعظم ربحاً.
طبيعة السوق
والقطاع الخيري، بما لديه من إمكانيات وموارد لا تتوقف ولن تتوقف ما دامت أمة الإسلام وما دامت الأرض ومن عليها، وفي إطار المسؤولية الإنسانية والاجتماعية التي يقع عبئها دائماً على هذه المنظومة، فإنه سيبقى مطالباً دائماً بمراقبة الأسواق، ومتابعة الأسعار، والبحث عن النقص في السلع والخدمات وأسبابه، وإيجاد الحل السريع من أجل البسطاء والفقراء والأيتام وغيرهم.. وعند الدخول في المعترك الاستثماري، فإن هذا القطاع سيظل مسؤولاً أمام الله تعالى على خوض التجربة في المجالات التي تهم القطاعات الاجتماعية والواسعة، ومواجهة النقص في السلع والخدمات الحيوية، خاصة السلع الغذائية، والملابس، والقطاعات المهمة كقطاعات مياه الشرب والكهرباء، وتقديم هذه السلع والخدمات بهامش ربحي غير كبير، وبجودة لا تقل عن المواصفات القانونية والمتعارف عليها، والعمل ـ في الوقت نفسه ـ على مواجهة القوى الاحتكارية الموجودة ـ كلما أمكن ـ في إطار من الشرعية والمسؤولية الاجتماعية.
طبيعة الرسالة الإنسانية
تختلف طبيعة الرسالة التي تؤديها الجهات الخيرية من جهة لأخرى؛ فهذه تهتم بالمعاقين، وتلك تهتم بأطفال، والأخرى تهتم بتقديم الخدمات الطبية، وجارتها تهتم بالفقراء والمهمشين والمعوزين. ولكل جهة أو كيان خيري رسالة إنسانية وأخلاقية يسعى لتأديتها على الوجه الأنسب الذي حددته مواثيق الشرف والأخلاق قبل اللوائح والقوانين والأنظمة. واختيار المجال الاستثماري لا بد أن يتناسب مع كل جهة خيرية، وله علاقة مباشرة في كل الأحيان مع المهمة الإنسانية التي تقوم بها هذه الجهة أو غيرها، فالجهة التي تهتم بقطاعات الفقراء قد تختار أحد المجالات التي تعتمد على العمالة الكبيرة لكي تساعد هذه الفئات على إيجاد فرص العمل التي قد تكون غير متاحة لولا خوض هذه الجهة واختراقها لهذه المجالات، والجهات التي تهتم بتقديم الرعاية الطبية المجانية لصالح الفقراء التي ترعاهم، والمدرجين على قوائمها، تستطيع أن تؤدي خدمات طبية ذات عائد غير كبير لقطاعات إنسانية لديها القدرة المادية، وتؤدي مهمتها الاستثمارية والتنموية بشكل لا يخرجها عن مهمتها الإنسانية، ليعود الأمر في النهاية على المجتمع عموماً بفقرائه وأغنيائه.
المكاسب المتوقعة
عملية توقع المكسب ليست عملية بسيطة؛ فهي تعني الدراسة المتأنية والشاملة لكافة الأمور والإمكانيات المتاحة، كالقدرات المالية المادية، والكوادر البشرية، وطبيعة السوق، والانحياز للقطاع أو المجال الذي يحقق المكسب المرجو أو المتوقع، فهناك جهات خيرية عاملة في القطاع الاستثماري لا ترتجي من المكاسب المادية المباشرة التي تنعكس عليها تحديداً، ولكنها ترتجي إحداث مكاسب معنوية من خلال اختيار المجال الذي يفيد قطاعا معينا من الناس عن طريق العمل على تدريبهم على مهارات معينة، يستطيعون من خلالها تحقيق إنجاز معين ينعكس علي المجتمع عموماً، وتكون الجهة الخيرية بذلك قد حققت رسالتها الإنسانية ومهمتها التنموية. ولكن هذه الأدوار المهمة والمرصودة لا تغني عن الطموح للحصول على المكاسب، واختيار المجال الذي يحقق الهوامش الربحية المأمولة، من خلال الدراسة المتأنية والعمل الجاد والمنظم.
الوقت
دورات الأيام وتداول السنين من سنن الله الكونية في الأرض، وهي ما تجعل ما كان يصلح لوقت سابق لا يصلح لهذا الوقت، وما يصلح لهذا الوقت ربما لا يصلح للسنوات والحقبة الزمنية القادمة، وتجعل من أهمية اختيار المجال الصالح لكل زمان ومكان فكرة مهمة وقوية ولو كانت مكلفة ومرهقة، فما دامت الحاجات الإنسانية تتطلب ذلك المجال على الدوام؛ فمن الأفضل اختيار المجالات التي لها أسواق مستمرة مع الأيام.
والله من وراء القصد؛؛
(1) جريدة الشرق الأوسط، العدد (11907)، 5 يوليو 2011.
المصدر: موقع مداد
الرابط المختصر https://insanonline.net/?p=69998