أرشيفية
تلعب الأعمال الإبداعية الأدبية والفنية، من قصص وروايات، ومسرحيات مكتوبة وممثلة، وأفلام ومسلسلات، وقصائد وأناشيد، وألعاب، دورا مهما كوسائل تربوية وتعليمية وترويجية يمكن استثمارها في غرس قيم العمل الخيري والتطوعي والإنساني، ونشر ثقافته في أوساط الأطفال والناشئة والشباب، بدءا من مراحل رياض الأطفال وحتى الجامعة، مما ينتظر أن يكون له أثر مهم في تحويل هذه القيم إلى أفعال وسلوكيات وممارسات عملية للمستهدفين، مع مراعاة مستويات العرض والتقديم تبعا للمراحل العمرية.
ولغرس منظومة القيم الخيرية والتطوعية أهمية خاصة؛ فهي تضمن الكشف عن الطاقات والإمكانات والملكات الكامنة لدى الأفراد والمجموعات، واستثمارها في توثيق الترابط الاجتماعي، والإسهام في مجهودات تنمية المجتمعات، وتعزيز التفكير الإيجابي لدى الشباب الذي يتوفر له وقت فراع أكثر من غيره، فضلا عن فوائد إيمانية وحياتية تعود على الأفراد كترقيق القلوب، وتقدير النعم حق قدرها، وحصول البركة في الحياة والأهل والمال والصحة والعافية، والأجر من الله في الآخرة.
هذا مشروع كبير وهام، ومن المؤسف أن الجهات التي هي على تماس بالعمل التطوعي أو الخيري أو الشبابي أو التربوي لم تفعل شيئا يذكر لخدمتة حتى الآن، وإن كان هذا لا يعني عدم وجود جهود في الصدد، بل إن ما يغلب عليها أنها نادرة متناثرة، وغير مترابطة أو ممنهجة.
أهم احتياجات المشروع:
يحتاج هذا المشروع الإبداعي لعدد من التجهيزات، لعلّ أهمها:
§ حصر قيم العمل الإنساني الرئيسة والمتفرعة عنها، مع ما ترتكز إليه من مرجعية (الآيات والأحاديث..)، مثل: التكافل الاجتماعي، إغاثة الملهوف، الإنفاق في سبيل الله، التعاون على البرّ، الإيثار، الرفق بالحيوان، خدمة المجتمع، وبخاصة أصحاب الحاجات فيه ..
§ حصر الأعمال والأنشطة التي يمكن أن تترجم هذه القيم إلى أفعال وسلوكيات عملية تنفيذا أو دعما، وهي كثيرة جدا، ومنها: تقديم المساعدات المالية والعينية للفقراء والمساكين، إطعام الطعام، إماطة الأذى عن الطريق، كفالة الأيتام وطلاب العلم، وتفريج كُرَب المكروبين، والكلمة الطيبة، وإصلاح ذات البين، وإعانة الشباب على الزواج، وسقيا الماء، والدلالة على الخير، وبناء المساجد ودور العلم والتعليم، والتبسم في وجوه الآخرين، وقضاء الدين عن الغارمين، والمحافظة على البيئة ..
§ البحث عن القصص المتوفرة في القرآن والأحاديث، وسير الصالحين والخيرين في تراثنا العربي الإسلامي، والتراث الإنساني الغابر والمعاصر، والفعاليات التي تقدم نماذج مشرقة في عمل الخير والتطوع وخدمة الناس وتنمية المجتمعات، وإعادة صياغتها وتقديمها بأسلوب مُيسَّر، ووضعها في قوالب مشوقة جذابة تناسب الشرائح المستهدفة، وتراعي البيئة العربية والإسلامية، وتأخذ بعين الاعتبار خصوصياتها الثقافية.
§ تقديم سير الشخصيات التي عرفت بالبذل والعطاء، وكان لها بصماتها في العمل الخيري، وإقامة وإنجاز المشاريع والخدمات المتميزة في هذا الجانب ماضيا وحاضرا، مثل: حاتم الطائي، الصحابي عثمان بن عفان – رضي الله عنه -، زبيدة زوجة هارون الرشيد، "بيل غيتس"، الدكتور/ عبد الرحمن السميط، وغيرهم كثير.
§ إنتاج قصص وأعمال معاصرة، يترك فيها المجال لإبداع المبدعين من كتّاب القصص والروايات والمسرحيات، وسير المتميزين ومذكراتهم في الجانب التطوعي.
§ وقد جرى التركيز على القصص والسير؛ لأنها أساس أغلب الأعمال الإبداعية الأخرى، والتي يمكن بعد ذلك تحويلها لأعمال مطبوعة، أو أعمال درامية وسينمائية مصورة، أو برامج تلفزيونية، أو أفلام كرتون، أو أعمال ممثلة على خشبات المسارح، أو غيرها.
نماذج مختارة
· قصة صاحب الحديقة/ (اسقِ حديقة فلان) ـ وتركّز على قيمة الصدقة (التصدق بثلث قيمة محصوله على الفقراء والمحتاجين)، وأثرها على المتصدق.
· قصة الرجل الذي سقى كلبا فدخل الجنة ـ وتركز على باب من أبواب الخير، ألا وهو سقيا الماء، وقيمة الرفق بالحيوان، وأهمية عدم احتقار أي عمل من أعمال المعروف مهما صغر في عين صاحبه أو عيون الناس ـ كما أرشدنا الهدي النبوي إلى ذلك ـ؛ لأنه يقود صاحبه إلى الجنة.
· قصة الأعمى والأقرع والأبرص / الأعمى الشاكرـ تركز على قيمة شكر النعم من خلال أداء الواجب المفترض على أصحابها شرعا من زكوات وصدقات، وأثرها الإيجابي في الدنيا والآخرة، دواما في الرزق، وكسبا لرضا الله سبحانه، وبنفس الوقت التعريج على الشح والبخل وعدم شكر النعمة، باعتبارها من أبواب سخط الله وزوال النعم.
· قصة مسجد "صانكي يدم"؛ بمعنى "كأني أكلت"، ووراء الاسم قصة حقيقية مؤثرة لمسجد غريب الاسم تعزز قيمة تدريب النفس على القليل الدائم من أعمال الخير والمداومة عليه؛ لأن: "أحب الأعمال إلى الله: أدومها وإن قلّ" ـ كما في الحديث الشريف ـ، وأن القليل الدائم خير من الكثير المنقطع.
صاحب القصة رجل فقير ورع، اسمه "خير الدين أفندي"، وقد كان كلما مرّ بالسوق وتاقت نفسه إلى طعام شهي أو حلوى لذيدة كان يقول لنفسه: "صانكي يدم" أو "أفترض أني أكلت"، ثم يقوم بوضع قيمة هذا الطعام في صندوق مخصص لذلك. ومضت الأشهر والسنوات وهو يكفّ نفسه عن لذائذ الأكل … ويكتفي بما يقيم أوَدَه فقط، وكانت النقود تزداد في صندوقه شيئا فشيئا، حتى استطاع بهذا المبلغ القيام ببناء مسجد صغير في حيه "حي الفاتح" بإستنبول، ولما كان أهل الحي يعرفون مقولة " خير الدين"؛ فقد أطلقوها اسما على المسجد الذي بناه تقديرا لصنيعه.
· "عين زبيدة"، وهي قصة أكبر مشروع مائي في عصره، قامت به سيدة فاضلة سخية اليد وهي: "زبيدة بنت جعفر المنصور"، وزوجة الخليفة "هارون الرشيد"، وأهمية القصة أنها تكشف الأثر التنموي في المشاريع الخيرية، وأهمية الصدقة الجارية والوقف، وقد أقيم المشروع الكبير عندما حجّت زبيدة إلى بيت الله الحرام، وشعرت – وهي في موكبها المهيب- بما يلاقيه أهل مكة والحجّاج من المشاق في الحصول على ماء الشرب؛ فأمرت خازن مالها أن يحضر المهندسين والعمال من أنحاء البلاد لحل هذه المشكلة وتوفير الماء. فلما أخبرها أن هذا المشروع تعترضه صعوبات كثيرة، وأنه قد يكلفها أموالا طائلة، قالت له: "اعمل ولو كلفتك ضربة الفأس دينارا". وقد قام المهندسون والعمال بالوصل بين منابع الماء في "بستان حُنَيْن" حتى مكة بمسيرة عشرة كيلومترات؛ حتى فاض الماء حاملا معه اسم "زبيدة" "عين زبيدة"، التي تعدّ صدقة جارية تجاوز عمرها الآن مئات السنين، وهي تحمل الخير للحجاج على الدوام.
النماذج القصصية السابقة وغيرها قدّم بعضها للأطفال، ولكن المشكلة أن كثيرا من الكنوز في تراثنا العربي والإسلامي والإنساني لم يمط اللثام عنها حتى الآن، وتحتاج إلى بحث وتنقيب وحصر أولا، وتقديمه للأطفال بقوالب إبداعية مختلفة ثانيا، فضلا عن إنتاج أعمال معاصرة في هذه الجوانب، وهي قليلة، وكل ما سبق يحتاج لجهود مؤسسية، ينتظمها مشروع ـ لا يكون ذا أهداف ربحية ـ بكل ما يستلزمه من كوادر متفرغة ومتعاونة، وميزانية، ومؤسسات راعية وداعمة، وجهات للتسويق والتوزيع، والشراكات مع المؤسسات التربوية والتعليمية والشبابية والتطوعية والرياضية.
ما ينبغي أن يكون أكثر أهمية لدى المؤسسات الخيرية والإنسانية في عالمنا العربي والإسلامي من تسويق مشروعاتها الخيرية، كبناء مدرسة أو مستشفى أو مسجد ـ من وجهة نظرنا ـ هو غرس قيم العمل الخيري لدى الأطفال والناشئة منذ نعومة الأظفار؛ لأن من شبّ على شيء شاب عليه، أو إشاعة ثقافة العمل الخيري ببعدها الحضاري المستمد من ثقافتنا الإسلامية لدى الشباب، الذين هم "دينامو" أي عمل تطوعي، وصولا إلى تجذير الخيرية لدى هذه الشرائح.
وسيكون لنا وقفة أخرى مع الأعمال الفنية التي تتفرع عن الأعمال القصصية، والتي تخدم الجوانب التطوعية والإنسانية وأهدافها النبيلة، وتلك التي لا تتفرع عنها في وقت قريب – بإذن الله. ومن نافلة القول أن عملا مسرحيا أو دراميا، أو فيلما كرتونيا، قد يكون أقدر على غرس القيم أو حشد التأييد لفكرة أو مشروع أكثر من ألف خطبة ومحاضرة، وربّ صورة معبرة أبلغ من ألف عبارة ومقال.
المصدر: موقع مداد
الرابط المختصر https://insanonline.net/?p=70022