أرشيفية
تعتبر الشفاعة من القيم المهمة التي وجدت في المجتمعات الإنسانية قديمها وحاضرها، نتيجة للعلاقات اللامتناهية بين البشر. والشفاعة تعتبر تكريماً واختصاصاً [1]، وميزة لا تمنح لكل الناس؛ فهي هبة إلهية توضع لأناس بأعينهم من عباده في الدنيا وفي الآخرة، قال تعالى: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) [2]، فهي منحة الأنبياء والشهداء والصالحين وغيرهم، توهب لهم في الحياة الدنيا لقوله تعالى: (وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض) [3]، فقد استعانوا بموسى ـ عليه السلام ـ ليكون شفيعاً لهم عند الله تعالى من أجل أن يطعمهم ربهم مما يرغبون فيه من نبات الأرض، وهي منحة وتكريم لنفس الفريق يوم القيامة، وهي أيضاً ميزة واختصاص، وكرامة بين البشر بعضهم بعضا، مقرونة دائماً بأشخاص لهم ميزات من قبل رب السماء تؤهلهم بأن تمنح لهم الشفاعة، كحسن الخلق، أو القيمة العلمية، أو المكانة الدينية والسياسية والاقتصادية، وغيرها.
ولقد أقرها النبي الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ كرامة بين الناس كذلك، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "أنزلوا الناس منازلهم". ولقد منحها ـ صلى الله عليه وسلم ـ تشريفاً لأبي سفيان عندما دخل ـ صلى الله عليه وسلم ـ مكة فاتحاً، فقال: "من دخل بيت أبي سفيان فهو آمن" [4].
والشفاعة آية من آيات القبول من الله تعالى لفريق من عباده، وآية من آياتِ القبول الاجتماعي بين الناس بعضهم لبعض، وقد جاء أمر تنظيمها وتقنينها من الشارع الحكيم لتضمن للمجتمع العون والغوث، والمساعدة، والصلاح، والاستقامة، ورفع السوء والبطش والمظالم، فقال تعالى: (من يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا)[5]. فهي دعوة مستمرة للإصلاح واتباع كل ما هو حسن، وهناك تحذير مستمر من استغلالها في السوء والظلم والمحرمات، وسلب حقوق الناس بالباطل, بما قد تؤديه هذ الصور من خلق الاحتقان الاجتماعي.
شروط الشفاعة
1- القبول والرضا من المشفوع لديه أن يشفع عنده الشفيع؛ لقوله تعالى: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه).
2- رضا الشفيع أو الشافع عن المشفوع لأجله؛ لقوله تعالى: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) [6].
3- الحصول على الإذن أو الرخصة بالشفاعة؛ لقوله تعالى: (وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضى) [7].
قيمة الشفاعة الاجتماعية والخيرية
للشفاعة في المجتمعات القديمة والمعاصرة قيمتها الخيرية والاجتماعية, فهي وجه من وجوه تكريم الناس، ومنحهم صلاحيات تقدمهم للتحلل من الحرج في قضاء حوائج الناس، والإصلاح بينهم، والاستماع إليهم، والاستجابة لهم.. وهي وجه من وجوه توطيد العلاقات الاجتماعية التي تهدف إلى صلاح المجتمع، وتماسكه، وتقويته، وتحسين أحوال أبنائه، ودعوة دائمة لرفع الجور، ورد المظالم، و الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، غايتها القصوى هي رضوان الله ـ سبحانه وتعالى ـ إذا استخدمت بالشكل الصحيح الذي أقره رب العزة ـ سبحانه وتعالى ـ في كتابه الكريم شفاعة حسنة.
مجالات استخدام الشفاعة في المجتمعات الإنسانية
تتعد الصور التي قد تستخدم فيها الشفاعة كقيمة خيرية واجتماعية إلى صور لا متناهية، ولكننا نؤثر التركيز على الصور الأكثر وضوحاً في المجتمعات المعاصرة، والتي لها مرجعية إسلامية في نهج الأولين والتابعين:
أولاً: الإصلاح بين الناس
فلا شك أن الشفاعة وسيلة من أهم وسائل الإصلاح بين الناس؛ فبها يوقف الاقتتال والحروب، ويحل العمران مكان التخريب، وبها تتوطد العلاقات وتنمو المجتمعات، فبها تتشفع الأم لولدها عند والده ليرضى عنه، وبها يشفع أهل الخير بين الإخوة المتخاصمين، وبين الأزواج المتفرقين، فيلتئم الشمل، ويعود الود الذي يصنع التسامح والمحبة التي تؤهل للنمو والنهوض والارتقاء المعنوي والمادي، فبالشفاعة تحل الألفة مكان الفرقة، والعفو والمسامحة مكان الانتقام والغلظة، ولقد أعرض النبي الكريم ـ صلوات الله وتسليماته عليه ـ عن ابن عمه أبي سفيان بن الحارث، وابن عمته عبدالله بن أبي أمية في الأبواء؛ لأنه كان يلقى منهما شدة الأذى والهجو، لولا شفاعة أم المؤمنين أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ التي قالت لنبي الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "لا يكن ابن عمك وابن عمتك أشقى الناس بك". وقال علي لأبي سفيان ائته من قبل وجهه، وقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف: (تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين)[8]، ففعل, فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين". فأنشده أبو سفيان أبياتاً مدحه فيها، واعتذر عما فعل به سابقاً [9].
وبالشفاعة يستأصل داء النزاع قبل أن يستفحل، وتحقن الدماء التي قد تراق، وتوفر الأموال التي قد تنفق للمحامين بالحق وبالباطل، وبها يمكن تجنب المشاجرات والاعتداءات على الحقوق والنفوس، بل إن الشريعة جعلت للشفيع المصلح حقاً من الزكاة أو من بيت المال؛ لأداء ما تحمله من الديون بسبب الإصلاح، وإن كان قادراً على أدائها من ماله، فقال الله تعالى: (وَالْغَارِمِين)[10]، وهم من تحملوا الديات لأجل الإصلاح بين الناس، وكف بعضهم عن قتل بعض.
فالشفاعة التي تجلب الإصلاح درجة عالية من درجات العبادة والتقرب إلى الله تعالى، لا يصل إليها إلا من سعى إليها بكل ما أوتي من سلطان من الله وقدرة على أن يكون شفيعاً من أجل ذلك الإصلاح، حيث قال رسـول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصدقة والصلاة"؟ أي درجة صيام النافلة وصدقة نافلة والصلاة النافلة، فقال أبو الدرداء ـ رضي الله عنه ـ: قلنا بلى يا رسول الله. قال: "إصلاح ذات البين".
فالشفيع المصلح هو ذلك الذي يبذل جهده وماله ويبذل جاهه ليصلح بين المتخاصمين.. قلبه من أحسن الناس قلوباً.. نفسه تحب الخير.. تشتاق إليه.. يبذل ماله ووقته.. ويقع في حرج مع هـذا ومع الآخر.. ويحمل هموم إخوانه ليصلح بينهم.
ولعلماء الإسلام في مصر أدوار مهمة وبارزة في الشفاعة بين العائلات المتناحرة والقبائل المتقاتلة، وزرع الألفة مكان الفرقة، والهدوء والسكينة مكان البغض والتربص، والمتابع للأحداث الدائرة في مصر هذه الأيام يلاحظ هذه المجهودات الكبيرة والمتعاقبة [11].
ثانياً: إحقاق الحقوق ورد المظالم
ففي العلاقات المعقدة بين البشر في المجتمعات المتنامية قد تكون الحياة الدنيا خادعة غرورة، تجعل الإخوان يقفزون على حقوق إخوانهم ليعتدوا عليها أو يغتصبوها، أو ينالوا من الآخرين جهلاً، وقد تخدمهم القوانين بثغراتها ليواصلوا جورهم وظلمهم، ولكن للعلاقات الاجتماعية دور في رفع هذا الجور، ورد هذه المظالم بشكل ودي وعرفي بسيط، فالظلم والجور من الصور التي نهى عنها الإسلام ودعا لمجاهدتها ودرئها، فعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:" نصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، فقال رجل: يا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنصره إذ كان مظلوماً، أفرأيت إذا كان ظالماً كيف أنصره؟! قال: "تحجزه أو تمنعه من الظلم، فإن ذلك نصر له" [12]. ويكون للشفيع دور مهم في النهي عن الظلم، وإحقاق الحق، إذا سعى بما منحه الله تعالى من كرامة وصلاحيات في أن ينهي هذه المشكلات.
ثالثاً – التيسير على الناس:
فمن المجالات الإيجابية الدائمة للشفاعة هي التيسير على الناس، وفتح الأبواب المغلقة، فبكرامة الإنسان عند أخيه الإنسان قد تفتح أبواب العمل المغلقة، وقد تفتح بالشفاعة آفاق لا يمكن أن ندركها، وقد تفتح من الخير ما لا يمكن حصره ولا عده ولا محوه عبر الأيام، فهل أعظم وأكبر من تلك الشفاعة، التي ساهمت في تثبيت الإسلام في شمال أفريقيا، بل ومساهمتها في فتح الأندلس وفتح جزر البحر المتوسط (سردينيا ومايوركا وصقلية)، فبشفاعة عبدالعزيز بن مروان عند خليفة المسلمين إبان الدولة الأموية، وأخيه عبدالملك بن مروان، للقائد التاريخي العظيم موسى بن نصير ليقود جيش المسلمين في منطقة شمال أفريقيا، التي ظلت عصية على القائد التاريخي الشهير أيضاً عقبة بن نافع حتى نال الشهادة فيها، واستطاع ابن نصير، وخلال سبع سنوات، من العمل لمصلحة الإسلام، وتثبيت الإسلام في هذه المنطقة وفي قلوب أهلها من البربر المتعصبين، وتقديم القائد الأمازيغي المسلم الكبير طارق بن زياد ليواصالا العمل من أجل الإسلام، ويفتحا معاً الأندلس، ويدخل أهلها في الإسلام أفوجاً وأفوجاً[13]، فالشفاعة من أجل جلب منفعة أو التيسير على فرد واحد من أجل مصلحة مشروعة قد تكون فتحاً كبيراً على أعداد كبيرة من البشر، و"من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها دون أن ينقص من أجرهم شيئاً" حتى أن تقوم الساعة. ولا شك أن هذه الشفاعة التي أجراها عبدالعزيز بن مروان عند أخيه لمصلحة موسى بن نصير، والتي صبت في مصلحة الإسلام، قد نال عبدالعزيز بن مروان نصيب منها، كما أن الأجر الكبير سوف يلحق كل من فتح لمسلم باباً من أبواب المنفعة التي تكفيه شرور العوز والحاجة.
الجانب السلبي من جوانب استخدام الشفاعة
يظهر الجانب السلبي من جوانب استخدام الشفاعة في أبشع صوره عندما تتجرد من غايتها العليا، وهي رضوان الله ـ سبحانه وتعالى ـ وتسعى إلى الحصول على مصالح دنيوية بطرق غير مشروعة، فيشفع الشفيع بما له من سلطات لنفسه أو لغيره لينال حقوقاً ليست له قد تحرم من هم أولى وأجدر وأحق بها، وبما قد يضر بالصالح العام للفرد وللمجتمع. وهذه الصور صارت منتشرة بأشكال لامتناهية، وبشكل أدعى للمعالجة والمداوة في جل المجتمعات، ولكننا لكي لا نخوض أكثر في ذكر هذه الجوانب يكفينا أن نشير إلى ضرورة محاربتها كلما أمكن…
الهوامش:
1- (أي أنها من الأمور المقيدة غير المطلقة التي لا تمنح لكل الناس).
2- سورة البقرة، آية رقم 255.
3- سورة البقرة، آية رقم 75.
4- روضة الأنوار في سيرة النبي المختار، صفي الرحمن المباركفوري، ص 292.
5- النساء، آية رقم 85.
6- سورة الأنبياء، آية رقم 28.
7- سورة النجم، آية رقم 26.
8- سورة يوسف، آية رقم 91.
9- المصدر السابق، ص 290.
10- سورة التوبة، آية رقم 60.
11- إنشاء بيت العائلة برئاسة شيخ الأزهر وبطريرك كنيسة الأرثوذكس البابا شنودة للقضاء على الفتن الطائفية.
12- رواه البخاري والترمذي في سننه.
13- حلقة تلفزيونية من برنامج "مع التابعين"، للدكتور: عمرو خالد، بعنوان (موسى بن نصير).
المصدر: موقع مداد
الرابط المختصر https://insanonline.net/?p=70032