العطاء الخيري ما بين المادي والمعـنوي

تعبيرية

العطاء والمنح الخيري في الإسلام قدر الله أن يكون فيضاً من معين رباني لا يتوقف، يتبدى دائماً في أشكال وصور بها من التنوع ما لا حصر له ولا عد. والعطاء يتبلور عادة ما بين نوعين شهيرين، أحدهما: المادي المباشر والصريح، وهو الشكل المحبب للجميع، وهو الأكثر تأثيراً وأثراً لتغيير شكل الواقع الإنساني المتردي لشكل فيه من الصلاح والأفضلية، فقد روي عن عمر ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: " لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت على المسلمين من بلادهم شبرا، إني لم أحمها لنفسي، ولا لخاصتي، وإني حميتها لمال الله الذي أحمل عليه في سبيل الله"(1). والنوع الآخر: هو الشكل المعنوي، ويتمثل في صور لا متناهية، وله علاقة مباشرة أو غير مباشرة بالشكل المادي في الكثير من الأحوال، قال تعالى: (( وافعلوا الخير لعكم تفلحون )2). قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: "يزيد به صلة الرحم ومكارم الأخلاق"؛ لأن فعل الخير ـ كما يقول الرازي ـ ينقسم إلى خدمة المعبود، الذي هو عبارة عن التعظيم لأمر الله، وإلى الإحسان، الذي هو عبارة عن الشفقة على خلق الله، ويدخل فيه البر والمعروف، والصدقة على الفقراء، وحسن القول للناس، فكأنه ـ سبحانه ـ قال: كلفتكم بالصلاة، بل كلفتكم بما هو أعم منها وهو العبادة، بل كلفتكم بما هو أعم من العبادة وهو فعل الخيرات" (3)). وهو ما يدلل أن العطاء ينقسم ما بين مادي ومعنوي.
أولاً: العطاء المادي: 
     ويتبلور العطاء المادي في صنوف كثيرة وصور لا متناهية، ولكنها تكون نتاجا لشيئين أكثر وضوحاً، وبيانهما كما يأتي:
 
1-      بذل الأموال: 
والأموال جمع مال، ويعرف في أحد تعريفاته بأنه ما بقدره يكون قدر إقامة نظام معاش أفراد الناس في تناول الضروريات والحاجات والتحسينيات، بحسب مبلغ حضارتهم حاصلا بكدح. ويعد الماء المحتفر بالآبار مالا، وتراب المقاطع مالا، والحشيش والحطب مالا، وما ينحته المرء لنفسه في جبل مالا(4). والمال المعتبر في الإسلام هو كل كسب مشروع لا حرمة فيه ولا شبهة؛ لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ((:لَا تُقْبَلُ صَلَاةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ، وَلَا صَدَقَةٌ مِنْ غُلُولٍ(5). 
 
والمال ثلاثة أنواع: أما النوع الأول، فهو ما تحصل تلك الإقامة بذاته دون توقف على شيء، وهو الأطعمة كالحبوب، والثمار، والحيوان لأكله وللانتفاع بصوفه وشعره ولبنه وجلوده، ولركوبه. والنوع الثاني: ما تحصل تلك الإقامة به وبما يكمله مما يتوقف نفعه عليه، كالأرض للزرع وللبناء عليها، والنار للطبخ والإذابة، والماء لسقي الأشجار، وآلات الصناعات لصنع الأشياء من الحطب والصوف، ونحو ذلك. والنوع الثالث: ما تحصل الإقامة بعوضه مما اصطلح البشر على جعله عوضا لما يراد تحصيله من الأشياء، وهذا هو المعبر عنه بالنقد أو بالعملة، وأكثر اصطلاح البشر في هذا النوع على معدني الذهب والفضة(6). وبذل المال هنا يعني إنفاقه أو التبرع به بغرض الإنفاق في أوجه الخير المعتبرة، فإنفاق المال آية الإيمان، والوسيلة لحياة الأمة ( 7)، وعزة دولة الإسلام، ورفعة لشؤون المسلمين، لا محالة في ذلك ولا شك. 
 
2-      بذل الجهد والنفس (العمل التطوعي):
 وبذل الجُهد ـ بالضم ـ وهو الوسع والطاقة، أو عن المبالغة في العمل من الجَهد بالفتح، وفي عرف الشرع يستعمل في بذل الوسع والطاقة في سبيل الله ـ عز وجل ـ، و المبالغة في ذلك (8). وبذل الجهد هو منهج السالك إلى ربه (9)، وهو عبادة من العبادات التي يتقرب بها العبد إلى الله تعالى، لا سيما إذا كانت تنعكس بشكل يخدم الإنسان والأمة، ولا يطلب عنها أجر أو منفعة، قال تعالى: ((إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة)(10) ولهذا يقال: من حمل في سبيل الله  بايع الله(11). ومن أدرك هذا المعنى نذر نفسه للرحمن في كل حركاته وسكناته، وما وهن ولا استكان حتى يغير واقع الأمة إلى الأفضل، فلا يزال الأمر (أي البذل والجهد التطوعي ) فيه من القصور الكثير والكثير، رغم الوفرة في الأنفس والأعداد، ورغم الفراغ، ورغم أن بذل الجهد عبادة حض عليها الإسلام، وإن كان للبعض أن يتذرع بأن ميدانها هو ميدان الحروب والجهاد، وهو مفقود كما يبدو، ولكن هل هناك، ورغم انحسار ميادين الحروب على الأمة، أوسع من ميادين التنمية والارتقاء والنهوض والمنافسة الشريفة وسط تطور عالمي لا يتوقف أو يعرف حداً للمستحيل ؟؟
 
ثانياً: العطاء المعنوي: 
    والعطاء المعنوي هو أمر تدركه القلوب، فيحول آلامها إلى طمأنينة، وأحزانها إلى أفراح، وبَلادَتها إلى قوة وطاقة، وبه يتحول اليأس إلى أمل وتفاؤل. والعطاء المعنوي متعلق بسمات شخصية في نفس من يبذله، منها: حسن الخلق وكرم الأخلاق، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ  ـ رضي الله عنه ـ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " إِنَّكُمْ لَنْ تَسَعُوا النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَسَعُهُمْ مِنْكُمْ بَسْطُ الْوَجْهِ وَحُسْنُ الْخُلُق (12). والعطاء المعنوي النابع من حسن الخلق قد يتعلق بأمر مادي، كالعفو عن الناس، وإسقاط الحقوق، وأهمها الديون(13). وهو ما يترك آثراً قد يتعدى الفرد المعفو عنه، فيجعل المجتمع في حالة من السلم الاجتماعي بانتشار صوره في شتى الميادين التي يتطلب فيها وجود العفو والمسامحة، ولا يقتصر العطاء والدعم المعنوي للآخرين على ذلك، بل هو ميدان واسع لا يدرك له نهاية ولا حد، ومن صوره أيضا ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ:
 
• زيارة المريض:
فالمريض من أكثر الناس حاجة للدعم والمواساة، فبزيارته قد ترتفع معنوياته، وتزول آلامه، ولقد حض الإسلام على زيارة المرضى، وملاطفتهم، والتهوين عليهم، والدعاء لهم، وبزيارة المريض ومواساته تنفتح للزائر أبواب الرحمات الربانية، فعن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: "إذا عاد الرجل المريض خاض الرحمة، حتى إذا قعد عنده قرت فيه".. أو نحو هذ(14).
• الدعم المعنوي للأيتام: 
فاليتيم  هو كل طفل في مهده فقد والده، والوالد أو الأب هو العائل لذلك الصغير، وهو المنوط به الشفقة و العطف عليه والإحسان إليه بحسن تربيته وصقله وتعليمه، وهي أمور قد تجعل الطفل اليتيم الذي ينمو مفتقداً لكل هذه القيم، مع مشاهدته للأقران ينعمون به، دون عطف أو شفقة به أو مواساة، ساخطاً ناقماَ عدوانياً جاف المشاعر، ولذلك فقد أولى الإسلام للأيتام رعاية كبيرة؛ فأمر بالإحسان إليهم، فقال تعالى: ((فأما اليتيم فلا تقهر))(15 )؛ أي لا تكن جبارا ولا متكبرا، ولا فحاشا فظا )16 ) في التعامل مع الأيتام وغيرهم من الضعفاء من عباد الله، وخص اليتيم; لأنه لا ناصر له غير الله تعالى، فغلظ في أمره، بتغليظ العقوبة على ظالمه( 17)، وقيل لا تقهره على ماله فتذهب بحقه لضعفه، وكذا كانت العرب تفعل في أمر اليتامى، تأخذ أموالهم وتظلمهم حقوقهم( 18)، فينمُوا عدواً لمن يقهره، وللمجتمع الذي لم يحمه ويرفع عنه معاناته.  
• إفشاء السلام:
وإفشاء السلام هو ضرورة من الضرورات المعاصرة، وسط مجتمعات صارت بها من المادية والجفاف والعدوانية ما قد يهددها ويهدمها، والسلام صورة من صور الدعم المعنوي، ليس بين الأخ وأخيه، ولكن بين الفرد البسيط وعالمه، فإفشاء السلام من مفاتيح القلوب، ومن أسباب السمو والعلو و الارتقاء، ليس بمن يلقيه فقط، ولكن بمن يفشيه أينما ولّى أو راح، فعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: قال لي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (( يا بني، إذا دخلت على أهلك فسلم؛ يكن بركة عليك وعلى أهل بيتك))( 19). فإنه يكون ـ أي السلام ـ سبب زيادة بركة وكثرة خير ورحمة ( 20)، وهو سمت العلماء والصالحين، ونهج المرسلين، وتحية البالغين جنانه يوم الدين، فقال تعالى: ((وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ) (21(  
 
"فأفشوا السلام بينكم".
 
                              والله من وراء القصد ،،
المصدر: مداد