هدى غالية: عائلتي الصغيرة.. بأي ذنب قتلت

كانت هدى ومعها أشقاؤها وعائلتها يجلسون على شاطئ البحر بغزة في ظهيرة يوم حار، لم يكن الأب “علي غالية” يدرك أن هذه الرحلة لأسرته إلى شاطئ البحر هي نهاية وجوده في الأرض وأن الموت الرابض في منتصف البحر ينتظره هو وأفراد أسرته، هديل شقيقة هدى كانت قد طلبت من والدها الذهاب للبحر وذلك من أجل التنزه بعد انتهاء العام الدراسي، وكانت هذه أول رحلة لهم من مخيم بيت لاهيا إلى حيث شاطئ البحر، وكانت الأخيرة لأفراد أسرتها.
بعدها بدقائق نزلت هدى للاستمتاع بمياه البحر، وفجأة سمعت أصوات قوية وانفجارات تهز الشاطئ برماله البيضاء، وعندما خرجت تستطلع الأمر، وجدت جميع أفراد أسرتها قد قتلوا، إلا شقيقتها هديل التي كانت الدماء تغمرها من كل جانب.. إنسان أون لاين.نت ذهبت لهدى في منزل عمها والسطور القادمة تعكس وقائع ما حدث.
عائلة غالية
حينما اقتربنا من البيت خفقت قلوبنا بشدة ولم يكن بيت أسرتها لأن الكل استشهد، فذهبنا إلى بيت أعمامها وتوقفنا قليلا أمام مشهد مؤثر جدا لا يمكن أن يمحى من الذاكرة لأطفال يلعبون لعبة “استشهاد عائلة غالية”.
مجموعة تجلس وتمثل المشهد وآخرون يلقون بعض الكرات المطاطية ويصرخون شهيد، شهيد، هذا المشهد زاد من حزننا، وللحظات وقفنا مباشرة أمام هدى دون سابق إنذار والتي اقتربت من باب البيت على صراخ الأطفال الذين كانوا يصرخون وهم يمثلون ما حدث “شهيد، شهيد”.
جلسنا في بيت متواضع الأثاث مثل أي بيت في المخيم، لكن الشيء الذي لم يكن عاديا هو الحدث الذي فرض نفسه على هذه الأسرة، بنظرات زائغة تقدمنا من هدى غالية، الطفلة التي هزت صورتها العالم.
حينما رأتنا هدى مدت يدها لتسلم علينا وكانت قوة شخصيتها رغم الحدث تظهر على محياها وقالت تفضلوا وقادتنا داخل البيت، ولم نبادر بالسؤال بل كانت الإجابة منها مباشرة، وقالت: “أمي وأبوي وإخوتي ما ماتوا.. هم شهداء عند الله والآن هم في الجنة مبسوطين وفرحين”، بعد هذه الجملة تغيرت هدى وأخذت تبكي بحرقة حتى أننا لم نتماسك أنفسنا من البكاء وأخذنا نبكي معها.
نظرت إلينا هدى بعيون زائغة محمرة مذهولة وواصلت حديثها: “أنا رأيت إلهام وهنادي وصابرين وهيثم وزوجة أبي (عالية) وأمي (رئيسة) وأبي (علي) وهم يغرقون في دمائهم على رمال الشاطئ”.

وواصلت هدى الحديث قائلة: “أمي وأبوي وأخواني ماتوا أنا فقدت كل شيء وتبكي” وصرخت ثم تماسكت قليلا: “وكنت في البحر وسمعت صوت الانفجار الكبير طلعت رحت على أمي لقيتها كلها دم بتقول لي يا بنتي امسحي الدم عن وجهي أنا بموت قعدت امسح عنها وجريت على أخواتي لقيتهم كلهم ميتين ودم كلهم”.
صمت مطبق عم المكان هنا، وعادت هدى للبكاء وقالت وهي تبكي: “لم يبق لي أحد كلهم ماتوا” وتعدد أسماء كل من ماتوا، وأضافت: “قعدت اجري أدور على أبويا لقيتو نايم بصحي فيه لقيتو ميت صرت اصرخ وأدور على الإسعاف أقول للمصور صور وأقول واصرخ واصرخ”. وأصبحت تبكي مرة أخرى وسكتت عن الكلام ثم أضافت: “قعدت اكلم أبويا لقيتو ما بتكلم مات ماتوا كلهم ماتوا أخواتي أنا ما لي حد قعدت أصيح وأنادي وما صحي حد منهم.. قعدت اجري مرة أخرى جوز أختي قعد يجري علي الإسعاف وإخوتي كلهم ماتوا”.
وهنا ارتفع بكاء هدى ورمت نفسها في أحضان عمتها التي قالت لنا: “إحنا انتكبنا كل العائلة ماتت انتكبنا وين العرب وين المسلمين شو اللي بيصير في العالم أنا مش عارفة”.
هديل نجت بمعجزة
ذهبنا إلى هديل شقيقتها والتي نجت من موت محقق بعد أن أجريت لها عملية في مستشفى العودة التابع للجان العمل الصحي بعد أن أصيبت بشظايا القذيفة في رقبتها وتم استئصال الشظايا وقالت هديل وهي على سرير المستشفى بصوت راجف ومتوتر لإنسان أون لاين.نت: كنت بجانب أخي الصغير هيثم ذي الأربعة أشهر حيث كان يبكى، هدهدت عليه قليلا ثم ذهبت لتناول الذرة التي كان أبي قد شواها على الفحم للتو حينها صار إطلاق القنابل” هنا توقفت هديل عن الحديث وأخذت تبكى بمرارة، حتى أننا بكينا معها وتوقفنا لعشرة دقائق عن الحديث ونحن نبكى معها، ثم عادت هديل التي كانت أقوى منا لتقول بصوت مبحوح:
“ذهبت ناحية أخي هيثم شاهدت الدماء تسيل منه مسكت شريطة لأمسح له الدم وجلست بجواره لا أعرف ماذا حدث ثم نقلوني إلى المستشفى.
نحن الآن بجانب سرير هديل التي لا زالت ترقد في مستشفى العودة في تل الزعتر جباليا وفى رقبتها شظية ولولا عناية الله بها ورحمته ويريدها أن تبقى شاهدة على هذه المجزرة المروعة وتمت السرعة في إسعافها لكانت هي الأخرى لحقت بباقي العائلة ولا زال الأخصائيون النفسيون يحاولون علاج هديل في المستشفى وكذلك شقيقتها هدى في بيت عمها.
ولكن أي عالم نفس سيتمكن من علاجهما وشطب تلك الصورة من ذاكرتهما، صورة هديل ذات السبع سنوات وهى تمسح دماء شقيقها ذي الأربعة أشهر وصورة والدهما من ذاكرة هديل وهى تصرخ أمام الكاميرا على والدها الذي اخترقت القذيفة الصهيونية ظهره حيث كانت هناك حفرة في وسط جسده لم تظهرها لنا الكاميرا والقنوات الفضائية والأرضية.
شاهد عيان
ذهبنا إلى الصحفي زكريا أبو هربيد والذي كان شاهدا بعدسته على هذه المجزرة وبشاعتها وهو الذي التقط صورة الطفلة وهي تبكي بجوار جثث عائلتها وسألناه كيف كانت البداية فقال: “كنت قريبا من المكان.. بداية كان خبر حادث في بيت حانون واستهداف مجموعة من الناشطين، حيث استهدفتهم طائرة استطلاع؛ فتوجهت للمكان وصورت الحدث”.

وتابع: “أثناء عودتي، اسُتهدفت سيارة بها شباب من عائلة واحدة، وبقيت في الشمال أصور بمستشفى العودة، ثم جاءني اتصال هاتفي أن هناك قصفا في منطقة الواحة.. بصراحة لا أدري كيف حصل أن ركبت سيارة إسعاف أنا وزميلي خالد أبو سعدة، وتوجهنا إلى موقع القصف وكنا من الأوائل الذين تواجدوا في المكان”.
وأضاف: “نزلت بعيدا عن المكان وجريت، فرأيت أن هناك أشلاء، وكنت محتارا ماذا أفعل، وكنت أمام الطفلة هدى وبدون مبالغة، أنني بكيت أكثر منها، ولكني سيطرت على مشاعري وتركت الكاميرا تشتغل بمشاعري، وكان الموقف صعبا جدا؛ فالعائلة جميعها مستشهدة في منطقة على الشاطئ”.
ولم يجد أبو هربيد في قاموسه اللغوي ما يصف به المشاهد الحية للمجزرة، واكتفى بالقول بصوت متحشرج: كان الموقف إنساني.. لا أستطيع وصفه، حتى الآن أنا لا أستطيع أن أجمع أفكاري وما حصل معي بالتحديد”، لكنه عبر عن اعتقاده بأن “تفاصيل الصورة تحكي عن كل شيء”.
وأشار إلى أنه ابتعد عن التلفزيون من شدة تأثره، وقال: عندما شاهدت أول صورة للطفلة بعد التصوير انهارت أعصابي ولم أستطع تحمل النظر للتلفزيون، وبمجرد بدء نشرات الأخبار وعرض صورة الطفلة ابتعدت عن التلفزيون رغم أنني من صور كل هذا”.
ورأى المصور أبو هربيد أن الصورة كان صداها كبيرا وأثرت على مشاعر المواطنين، وتابع قوله: “كنت في المكان أول واحد، وأحكي لك بصدق كان في شباب متواجدين لا يعرفون ماذا يفعلون.. كانوا مذهولين من الحدث. فصرخت على أحدهم (شيل الطفل) فحمل الطفل، ومشهد الطفل أثّر فيّ لما حمله الشاب”.
وتابع بقوله: “بصراحة بالكاد لما استجمعت قواي واستطعت أحمل الكاميرا وأوجه الموقف الجلل والمصاب الكبير، وأنا كنت في موقف صعب، فكرت أنه يجب أن يرى الناس ما شاهدته من مشاهد الأشلاء وما الذنب الذي اقترفته العائلة على البحر”.
وأضاف أبو هربيد: “اتصلت بالمكتب وأبلغتهم أنني لا أستطيع أن أبقى في المكان، ويجب أن أغادره لأنني لا أستطيع التحمل أكثر من ذلك، فالطفلة تم نقلها مع والدها في سيارة إسعاف واحدة، ومع ذلك أنا بعدما انتهيت وجدت أناسا أتحدث معهم لأفرغ الكبت وأبكي، وارتحت جدا عندما بكيت”.