مستقبل العمل التطوعي.. نظرة متوازنة
في ظل انحسار دور الدول بمجالات التنمية الاجتماعية على وجه الخصوص برزت مؤسسات القطاع التطوعي لملء جزء كبير من هذا الفراغ حيث تمكنت من القيام بمهام كبيرة في دفع عجلة التنمية في مختلف المجالات، ومن هنا تكمن أهمية القطاع التطوعي.
وفي كتابه المهم "مستقبل العمل التطوعي" يرصد مستشار بيت الزكاة الكويتي د. نوري مبارك التطور الكبير في العمل التطوعي بالبلدان العربية والإسلامية والنامية، ويحدد في كتابه الهام الواقع الاجتماعي الذي فرض هذا التطور والتنامي في قطاع العمل التطوعي.
ومن المؤشرات الملحوظة على ازدياد أهمية هذا القطاع -حسب ما يشرح المؤلف – تنامي أعداد مؤسسات العمل التطوعي حيث بلغ عدد المنظمات غير الحكومية العاملة في مجالات التنمية المختلفة حوالي 50 ألف منظمة وهيئة في البلدان النامية، وقد تم تقدير عدد المستفيدين منها بنحو 100 مليون بواقع 60 مليوناً في آسيا و25 مليوناً في أمريكا اللاتينية ونحو 15 مليوناً في إفريقيا، وإن كان هذا العدد لا يمثل إلا خمس من يحتاج إلى خدمات القطاع الأساسية.
ويؤكد د. نوري أن هناك سيناريوهين لمستقبل العمل التطوعي في المجال السياسي، أولهما سيناريو متفائل يرى أصحابه بان القطاع التطوعي سينمو بشكل فاعل بسبب العلاقة الايجابية بينه وبين القطاع الحكومي من جهة والقطاع الخاص من جهة أخرى مشيراً إلى أن الظروف السياسية والاقتصادية السائدة في كثير من الدول تجبر الحكومات على منح المزيد من الحريات للقطاع التطوعي من منطلق إرضاء أفراد المجتمع وتوفير عوامل الاستقرار السياسي في الدولة.
ويلفت مؤلف كتاب مستقبل العمل التطوعي إلى أن الواقع الاجتماعي لشريحة عظيمة من السكان في العالم يبين بوضوح أهمية دور هذا القطاع، مشيراً إلى أن هذا الدور يتركز في محاربة الفقر في العالم ورغم ذلك هناك أكثر من مليار من سكان العالم يعيشون تحت خط الفقر. ويؤكد د. نوري أن الفرصة مازالت متاحة للتنظيمات التطوعية للانتقال من دور الفعل إلى دور التأثير وذلك ينبع من الجهود التطوعية التي أثبتت الكثير منها القدرة على الأداء والممارسة الميدانية بشكل أفضل وبفاعلية اكبر من نظيراتها الحكومية.
في مجال التنمية الاقتصادية يوضح د. نوري أن سوء الأوضاع الاقتصادية في معظم دول العالم أدى إلى قيام اتجاه جديد لدى المؤسسات التطوعية يتركز على أهمية تطبيق البعد التجاري في العمل التطوعي. بمعنى أن تعمل مؤسسات العمل التطوعي على إيجاد قنوات تمويلية تعزز من قدرة تلك المؤسسات على تنفيذ برامجها ومشاريعها.
وقال: تشير الأبحاث والدراسات إلى اتجاه قوي يسود شريحة كبيرة من التنظيمات التطوعية للتخلي عن المجانية في الخدمات الطوعية مشدداً على أن التنظيمات التطوعية ستعمل على تمويل المحتاجين إلى أدوات إنتاج؛ وذلك من خلال توفير فرص العمل المناسبة فهي بذلك تسعى إلى رفاهية الفرد من خلال رفع كفاءته الإنتاجية وتحسين وضعه الحقيقي وتأمين دخله الشهري.
انجازات العمل التطوعي
ويبرز مؤلف الكتاب انجازات القطاع التطوعي في العمل الثقافي والمتمثلة أساساً في تفعيل نظام القيم الإنسانية في النفس البشرية وتجاوز الفكر الاستهلاكي ونشر الوعي الاجتماعي والسياسي بين أفراد المجتمع من خلال برامج التوعية والتثقيف وربط نظام القيم بالمعتقدات الدينية في المجتمع متوقعاً أن يحتل القطاع مكاناً بارزاً في الحوار الثقافي بين الشعوب.
على الصعيد البيئي يؤكد د. نوري أن ما تقوم به المنظمات التطوعية من جهود في هذا المجال يعتبر مشهوداً موضحا أن النشاط الذي تشهده ساحة العمل البيئي في العالم سيدفع القطاع التطوعي لاستحداث مبادرات بيئية جديدة حيث سيعمل على نشر تلك المبادرات لتعزيز قدرة الأهالي على إدارة بيئتهم وتنمية قدرات أفراد المجتمع من أجل التأثير في السياسات المنظمة للمحافظة على البيئة. وهذا الواقع الذي تفرضه إنجازات القطاع التطوعي في ميدان البيئة سيجبر الحكومات على توسعة نطاق الحقوق والأنظمة واللوائح المستحدثة في تنمية البيئة وذلك من خلال الآتي:
– تمكين الهيئات التطوعية من الحصول على المعلومات الضرورية المتعلقة بالبيئة والموارد الطبيعية.
– إشراك مؤسسات القطاع في القرارات المتعلقة بالبيئة أو التي من المحتمل أن تترك أثرا على البيئة.
– حقها في إمكانية اللجوء إلى القانون للحصول على التعويضات اللازمة عندما تتعرض البيئة أو الصحة لتأثيرات خطيرة.
الحاضر والمستقبل
ويؤكد المؤلف أن القطاع التطوعي بمنظماته وتشكيلاته المتنوعة مقدم على حقبة ودور مستقبلي بالغ الأهمية، ففي ظل الظروف الراهنة التي تشهدها معظم حكومات العالم ممثلة في: أزمة الديون والفوائد، تداعيات النظام العالمي الجديد من العولمة والخصخصة وآثار اتفاقية الجات مثل فتح الأسواق وانعكاساتها على الدول النامية، التحولات الديمقراطية وتنامي المطالبات بمزيد من الحريات وحقوق الإنسان، حركات تحرير المرأة وحقوقها السياسية، أعباء الموازنات العسكرية وسباق التسلح، ازدياد الاضطرابات الداخلية، ازدياد الكوارث الطبيعية، وغيرها كثير من الأحداث ذات الآثار السلبية على المجتمعات. فإن أبرز الآثار التي ستنعكس على المجتمعات نتيجة لتلك الظروف هي ضعف أو غياب الدور الحكومي من ساحة العمل الاجتماعي. ففي هذه الحالة تكون الأنظار والآمال معقودة على القطاع التطوعي ليقوم بالعمل على ملء هذا الفراغ والعمل على تخفيف الآثار السلبية لتلك الأوضاع.
إن مسئولية القطاع تتمثل في بناء الجاهزية المؤسسية الشاملة والكاملة وحشد الإمكانات المتاحة واستثمارها بالشكل الصحيح لأداء هذه المهمة، وكما أن القطاع يتحمل مسئولية ملء فراغ الدور الحكومي، فإن أفراد المجتمع عليهم المساهمة بشكل إيجابي وفاعل لدعم ومساندة هذه المنظمات بشتى الوسائل والسبل وذلك من منطلق أن نتائج العمل المقدم ستنعكس آثاره على الأفراد سواء كانت النتائج إيجابية أم سلبية.
ويشدد المؤلف على أن موضوعية النظرة لمستقبل القطاع ذات أهمية بالغة، فلا ينبغي المبالغة في التفاؤل من حيث قدرة القطاع وتوفر إمكانياته للقيام بهذا الدور، كما لا ينبغي المبالغة بالتفاؤل من حيث تفهم الأفراد والحكومات لهذا الدور، فالمبالغة في مدى فهم هذا الدور على مستوى الأفراد والحكومات سيخلق منظورا في ذهن متخذي القرار من حيث تهيئة الظروف والمساحات المناسبة للعمل بحرية ودون عراقيل؛ وبالتالي يعتقد أفراد المجتمع أن الحلول المقدمة للأحداث والمصاعب تكمن بين يدي القطاع التطوعي وهو الوحيد القادر على تجاوزها، وفي نفس الوقت لا ينبغي المبالغة في التشاؤم من عدم قدرة القطاع على المساهمة الإيجابية في تنمية المجتمع أو يبلغ التشاؤم حدا يجعل التعامل مع هذا القطاع تشوبه هواجس الظن والشك والريبة فتقام العوائق والعراقيل في سبيل أدائه لدوره.
نظرة متوازنة
ويؤكد المؤلف أن النظرة لمستقبل القطاع التطوعي ودوره المستقبلي تحتاج إلى شيء من التوازن من حيث تحديد قدرة القطاع على المساهمة في عملية التنمية وذلك من خلال تقييم إمكانياته المادية والمعنوية والبشرية، ومن ناحية أخرى مدى تفهم الأفراد والحكومات ومساهمتهم وتعزيزهم لدوره والتعاون على تجاوز الآثار السلبية لما يواجهه المجتمع من مصاعب وأحداث على جميع الأصعدة سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو بيئية، إن مقتضيات العصر تقتضي من مؤسسات القطاع العمل باتجاه فتح آفاق جديدة في العمل التنموي والإقلال من الجانب الخدمي الرعائي.
هناك حاجة لانتهاج وبناء المؤسسات على قواعد صلبة من النهج الإستراتيجي السليم، وتبني الفكر الإداري الحديث الذي ينحي باتجاه تكوين أبنية مؤسسية قائمة على استثمار الإمكانيات المتاحة لتحقيق الأهداف المؤسسية التي من اجلها أنشأت تلك المنظمات.
هناك حاجة ماسة إلى تعليم الأفراد أهمية وفائدة العمل. فالتنمية تنحصر فلسفتها في العمل، كما أن على إدارات منظمات العمل التطوعي الابتعاد عن الجوانب التي تثير بواطن الشك والريبة والهواجس لدى الحكومات وانتهاج مبدأ الشفافية والانفتاح، مع أهمية مراعاة الجوانب الثقافية والسلوكية وعادات المجتمعات، بحيث تنطلق أعمالها من منطلقات تنموية بحتة دون الولوج في قنوات تضيع الجهد والمال والوقت، على الحكومات في هذه الحالة المساهمة في البناء التنظيمي والتشريعي لدعم هذا القطاع، واضعة في اعتبارها أن منظمات القطاع التطوعي ما هي إلا أذرع وأدوات تنموية تساهم في دعم مسيرة الدولة والمجتمع.
الرابط المختصر https://insanonline.net/?p=68481