النموذج البريطاني في “إستقلالية” قطاع العمل الخيري

بقلم: الدكتور عصام يوسف – رئيس الهيئة الشعبية العالمية لدعم غزة 

يقدّم النموذج البريطاني في هيكلته للقطاع الخيري مثالاً يختزل كماً من الخبرات، وتراكم التجارب النظرية والعملية، ليقدم في نهاية الأمر نتاجاً رفيعاً من “حوكمة” أحد أهم القطاعات التي يعول عليها في بناء وتنمية المجتمعات. 

تجربة المملكة المتحدة مع جائحة “كورونا”، كمثال، تثبت مدى التناغم في أداء مؤسسات العمل الخيري البريطاني مع التطلعات الحكومية في مواجهة مجتمعية شاملة بهدف التصدي للوباء. 

بدأ ذلك مع الدعم المالي الذي قدمته الحكومة بشكل استثنائي للجمعيات مع بداية إجراءات مواجهة “كورونا”، بعدما أعلنت الحكومة عن تقديمها 744 مليون جنيه كحزم مساعدات لدعم هيئات خيرية ومنظمات دولية كي تؤدي دورها في الحد من الإصابات الجماعية بالفيروس في البلدان النامية التي تفتقر لأنظمة الرعاية الصحية القادرة على تقصي الوباء والحد من انتشاره. 

بدعمها ذاك الذي حظيت فيه المؤسسات الخيرية البريطانية (غير الحكومية) بنسبة معتبرة، يضع المملكة المتحدة كواحدة من أكبر المانحين للاستجابة الدولية للوباء، إضافة للتأكيد على عمق إيمانها بجدوى أداء مؤسساتها الخيرية، وقيامها بواجبها الإنساني والمهني داخل البلاد وخارجها. 

النهج الذي اتبعته المملكة المتحدة في تعزيز استقلالية القطاع الخيري على مدى سنوات طويلة، أنتج قطاعاً قوياً يعتمد عليه في الأزمات، وفي الأحوال الاعتيادية على حد سواء، وتدلل الأرقام على ذلك، حيث تنفق الجمعيات الخيرية البريطانية أكثر من 40 مليار جنيه استرليني سنوياً، وتوظف نحو 827000 شخص، بينما تساهم المؤسسات الخيرية بأكثر من 12 مليار جنيه استرليني بالعام في اقتصاد البلاد، ما يؤكد على إمكانياته الكبيرة كرافد مهم للاقتصاد، ولعبه دوراً محورياً في التنمية الشاملة، وليس قطاعاً ضعيفاً، أو شكلياً كما في كثير من البلدان التي يعاني فيها القطاع الخيري تبعيةً لقطاعات أخرى تفرض عليه الركون في “بيت الطاعة”، أو تقييداً بفعل منظومة قوانين تشل من حركته وتمنعه من أداء وظيفته الإنسانية والتنموية بالشكل السليم. 

كما تشير الأرقام إلى وجود “نحو 166,000 جمعية ومؤسسة تطوعية في بريطانيا بميزانية تقدر بحوالي 43 مليار جنيه استرليني، وممتلكات وأصول بنحو 105 مليارات جنيه”، ويكشف ذلك نجاح قواعد وأسس “الحوكمة” والمؤسسية الحقيقية، التي تراعي المهنية، والرقابة، وتعزيز الأداء الخيري والمجتمعي، في بريطانيا. 

وتتيح القوانين والأنظمة المطبقة في المملكة المتحدة بمرونة الأداء، وإحداث فرق واضح في شكل عملها، عبر الطرق المتنوعة في التحصل على التبرعات، إما عن طريق صندوق التبرعات، أو تخصيص هدايا ضمن وصايا للعمل الخيري، أو اعتماد خصومات مباشرة ترصد لمؤسسات أو مشاريع خيرية، وطرق أخرى مختلفة سواء من خلال الجمهور أو بطرق أخرى، بما في ذلك بعض الأنشطة التجارية التي تعمل بعض المؤسسات على تأسيسها، بما يعزز عامل استدامة الدخل لديها، وكل ذلك في إطار القانون ولوائح الأنظمة المتبعة في ذلك. 

ومع تبعيتها لـ”مفوضية العمل الخيري البريطانية”، التي تتبع بدورها لوزارة الداخلية، إلا أن هذه التبعية لا يتجاوز دورها الرقابة على الأداء، وتنظيم عمل المؤسسات في القطاع بشكل عام، بينما لا تتدخل وزارة الداخلية في عمل المفوضية، ولا تفرض إملاءات أمنية، حيث لا افتراض من أي نوع للنظر إلى القطاع الخيري بنظرة أمنية، وليس هنالك ما يستدعي مثل تلك النظرة، سيما وأن طبيعة القطاع ودوره الجوهري في تنمية المجتمع، قد تكرس وتجذر بفعل الأنظمة والقوانين، وانطلاقاً من القناعات الراسخة بحاجة المجتمع والدولة لهذا القطاع. 

أما فيما يتعلق بطبيعة دور المفوضية، فيتلخص بشكل محدد فقط في “تنظيم” عمل المؤسات الخيرية وضمان التزامها بالقوانين، وغايتها في ذلك تكمن في تمكين المؤسسة ودعمها لتحقيق غاياتها وأهدافها، ولا تتدخل بالتالي في قرارات وسياسات المؤسسة إلا في حالات ضيقة، كمخالفة المؤسسة لدستورها، أو مخالفتها لقوانين العمل الخيري، أو القوانين والتشريعات العامة الخاصة بالقطاع. 

وليس للمفوضية أن تتدخل في الشؤون الإدارية للمؤسسة، ومجلس إدارتها، وآليات عملها طالما أنها تتطابق مع نظامها الداخلي “أي دستورها المسجل لدى المفوضية”، وبحسب الأنظمة المعمول بها فإن المفوضية لا تقوم بالتدخل في أي تغييرات إدارية أو نظام أو مجلس الأمناء، أو العاملين بالمؤسسة إلا  في حال عدم قيام مسؤولي المؤسسة بمهام عملهم حسب النظام الداخلي، ولا يتم ذلك إلا  بعد استيفاء التحقيقات المهنية الدقيقة والمطولة والشاقة لعملها في هذا الإطار. 

وتصل درجة حرص المفوضية-التي تعد جهة حكومية مستقلة تحكمها قواعد وسياسات صارمة- على صون المؤسسات الخيرية إلى حد إعطاء الفرصة لعملية إصلاح ومعالجة أي خلل عبر تقديم توصيات تتم بناء على مخرجات التحقيقات، فيما تتم العملية برمتها دون السماح لأية جهة تنظيمية أخرى بالتدخل، سواء أكانت حزبية أم سياسية، قد يتبع لها أفراد المؤسسة في قرارات وسياسات المؤسسة. 

وتعتمد المفوضية سياسة تؤكد على استقلالية المؤسسة، وتفيد بذلك لوائح المفوضية التي تؤكد على أنه “يحق للوزير أو الوزارة بتأسيس مؤسسة خيرية، ولكن بعد ذلك لا يحق لها التدخل في أعمال وسياسات وقرارات المؤسسة بأي شكل من الأشكال”، بغية الحفاظ على النظام العام، ولمنع تسلل الفساد للقطاع، وكي يقطع ذلك الطريق على لجوء وزير أو وزارة للالتفاف على التشريعات والقوانين من خلال تشكيل مؤسسة خيرية يعمد من خلالها للتهرب من ضوابط الحكومة. 

ولعل واقع قطاع العمل الخيري في المملكة المتحدة التي اتخذناها كمثال، يفتح شهية التطلعات والطموحات لدى العاملين في القطاع الخيري في عالمنا العربي بالاستفادة من هذه التجربة، وربما استنساخ جوانب عدة منها تبرز ديناميكية عالية في التعامل مع التحديات، وعلاج المعضلات، وفي خلق أجواء من الحيوية والفاعلية لدى القطاع في بلداننا العربية. 

إلا أن معيقات عدة تحول دون بلوغ النموذج البريطاني، في الحالة العربية، فغياب العدالة ينسحب على القطاع الخيري في العالمين العربي والإسلامي، كما ينسحب على باقي القطاعات والمجالات، الاجتماعية والاقتصادية والنقابية والتربوية، وغيرها من القطاعات، وسر ذلك يكمن في غياب التطبيق المنصف لركائز الديمقراطية على المؤسسات المجتمعية، وعلى رأسها الرقابة والمساءلة كي يُتوخى من ورائها النزاهة والاستقلالية والمهنية العالية. 

غياب تطبيق النهج الديمقراطي المؤسسي على القطاع الخيري فتح المجال أمام “عشوائية” القوانين وعدم مراعاتها لمتطلبات المجتمع في كثير من الأحيان، إضافة لفتحها الباب أمام المتنفذين والمقربين من السلطة للسيطرة والهيمنة على القطاع، بل وتكييف القوانين بما يلائمهم، وربما تجاوز القوانين إن استدعت الحاجة، عبر هامش فساد واسع يتيح لهم حرية الحركة. 

ولعل اتباع نهج التقليل من شأن مؤسسات العمل الخيري في دول العالمين العربي والإسلامي، يعتبر معيقاً أخر، حيث يظهر ذلك في ضعف الدعم الحكومي للجمعيات الخيرية، متذرعة بضعف امكانيات الدولة، بينما تحظى مؤسسات خيرية مقربة من الحكومات أو الأنظمة الحاكمة بالدعم، باعتبار أن هذه المؤسسات، التي تعد على أصابع اليد الواحدة، تمثل وجه الدولة الإنساني دون سواها من المؤسسات التي يقدر عددها بالآلاف، حيث تعاني الأخيرة عجزاً مزمناً في موازناتها، بل وأن الكثير منها لا ميزانيات حقيقية له، ويعتمد جزء منها على المتطوعين الموسمين كطلبة الجامعات، مما يجعلها غير فاعلة، ويجعل العديد منها يتوقف عن العمل ولا يقوى على الاستمرار في القطاع فترة طويلة. 

الزج بالجمعيات الخيرية في أتون التجاذب السياسي، يعتبر من أخطر ما يواجه تطور واستقلالية القطاع الخيري في البلدان العربية والإسلامية، ويظهر ذلك من طريقة التعامل مع الجمعيات الخيرية الناجحة، حيث غالباً ما تتوجس الحكومات والأنظمة الحاكمة من النجاحات التي تحققها جمعيات خارج فلكه السياسي، وغالباً ما ينظر لأصحابها كمنافسين سياسيين يجري محاربة جمعياتهم، حيث تضيق الرؤية هنا إلى حد يصبح معها العمل الخيري هو الضحية، وبالتالي المستفيدون من مشاريع وأنشطة هذه الجمعيات من الأيتام والفقراء والمرضى والطلبة..وغيرهم من الفئات المحتاجة.

وبالعودة لغياب العامل الديمقراطي المؤسسي، فإن ما تشرعه برلمانات العديد من الدول العربية والإسلامية من قوانين للعمل الخيري، يكاد يتركز في نظرته العامة على جانب مكافحة الإرهاب والفساد، ويظهر ذلك جلياً في التضييق على جوانب كآليات جمع التبرعات، والتمويل الخارجي، وتحويل المبالغ المالية عبر البنوك، وغير ذلك من النقاط التي باتت تمليها ضغوطات خارجية، أدت لتقييد عمل مؤسسات العمل الخيري العربي والإسلامي في كثير من الميادين والساحات، بينما يد المؤسسات الخيرية الغربية مطلقة في الغالب، ولا تعيقها أي معيقات. 

رغم كل ما سبق من معيقات، وما تركته صورة تهميش مؤسسات خيرية بعينها من أداء واجبها المهني والإنساني أثناء جائحة كورونا في بعض الدول العربية، حيث الحاجة ماسة لكل جهد خيري، إلى أن حيوية القطاع الخيري في أي مكان من العالم ستبقى نابضة بالحياة من خلال مبادئها الإنسانية السامية، وقيمها النبيلة، تتلمس طريقها نحو تعزيز آلياتها في العمل، وشق قنوات نحو ممارسة وترسيخ العمل الخيري بشتى الوسائل، والدفاع عن حقها في تحقيق الاستقلالية التي ستعود حتماً بالنفع على تكافلية مجتمعاتها، وتطوير أدوات ومهنية العمل الخيري أسوة ببلدان العالم الأول.