داخل مكتب للهندسة المعمارية شمالي قطاع غزة، ينشغل طاقم هندسي بتصميم نماذج لأبنية أثرية يزيد عمرها عن قرن من الزمان، تقع داخل الأراضي الفلسطينية المحتلّة.
تلك النماذج المصنوعة من الكرتون المقوّى وبعض المواد البلاستيكية المتواضعة، تُطابق في تصميمها الخارجي الشكل الأصلي للمباني الأثرية.
ويُرفق الطاقم الهندسي كل مجسّم بلوحة تُظهر اسم المبنى وصورا له مع معلومات تاريخية عنه ونُسخ عن المخطط الهندسي التأسيسي، فضلا عن توضيح الواقع الحالي الذي يشهده المبنى بعد وقوعه تحت الإدارة الإسرائيلية.
كما ألحق المهندسون تلك المجسّمات بتصاميم ثلاثية الأبعاد لتمكين الأفراد من معاينة تفاصيل هذا المبنى ومعايشته بشكل أقرب للواقع.
ومن بعض المباني التي تم تصميم مجسمات لها، كانت المدرسة “المنجكية” ويعود تاريخها للعصر المملوكي حيث أُنشأت عام 1631 وتقع داخل أسوار البلدة القديمة لمدينة القدس.
كما صمم الطاقم مُجسّما آخرا لمبنى سكني يطلق عليه اسم “بيت الشرق” تم تأسيسه في العهد العثماني عام 1897 في حيّ الشيخ جرّاح بمدينة القدس المحتلة.
المُحاكاة الإلكترونية
على برامج هندسية متخصصة، يدخل المهندس طارق العمر، تعديلات على الشكل ثلاثي الأبعاد الذي صممه للمُصلّى القِبلي داخل المسجد الأقصى بمدينة القدس، لإظهاره بشكل أقرب إلى الواقع.
يقول العمَر، وهو أحد أفراد الطاقم الذي يعمل على المشروع، إنهم أنجزوا منذ عام 2020 نحو 22 مجسّما.
ويضيف للأناضول أن هذا المشروع يهدف لتحويل المباني الأثرية بفلسطين إلى نماذج ثلاثية الأبعاد مطابقة للواقع، لكن بحجم أصغر.
ويردف أن المراحل الأولى من تنفيذ المشروع تتمثل في البحث عن المعلومات حول المبنى الأثري الذي سيتم تحويله إلى مجسّم والمساقط الهندسية وصوره.
ومن ثم تبدأ عملية النمذجة الإلكترونية للمبنى المُستهدف وفق الأبعاد الأساسية والمواد الخام الذي أُسّس منها، كي يتم إنتاج مبنى مُطابق تماما لما هو موجود على أرض الواقع.
وبعد تصميم مُجسم ثلاثي الأبعاد، يبدأ العمل في تكوين هذا المجسم باستخدام المواد الكرتونية المطبوعة بأشكال تُحاكي مظهر المبنى الخارجي.
وعبّر العُمر عن آماله في نمذجة كافة المباني الأثرية الواقعة في المدن والقرى الفلسطينية المحتلّة.
المجسّمات الكرتونية
في زاوية أُخرى من داخل المكتب، يستكمل المهندس حسين نعيم تصميم مجسم لأحد الأبنية التي تم تأسيسها في العهد العثماني.
ويقول وهو يُلصق ورقة طُبع عليها شكل حجارة رخامية قديمة على السطح الخارجي للمجسّم: “نستخدم ورق الكرتون، ونُلصق عليه ورق الكانسون (مُقوّى) المطبوع أو الملوّن”.
ويضيف: “نستخدم أحيانا الصلصال الفخّاري لتصميم بعض المجسّمات لإظهار شكلها بصورة أقرب للواقع”.
ويوضح أن أصعب مراحل صناعة المجسم تتمثل في عملية البحث عن المعلومات الخاصة عن المبنى حيث لا يتم توثيق كافة المباني داخل الكتب.
ويذكر نعيم أنهم واجهوا مشكلة كبيرة في حصولهم على المخططات الهندسية الخاصة بالمباني، في حين أن وسائل التواصل ساهمت في التخفيف من تلك المشكلة، حيث سهّلت وصولهم لبعض المالكين الأصليين الذين يحتفظون بمخططات تلك المباني.
وأثناء رحلة البحث عن المعلومات، يُعايش كل مهندس قصة المبنى الذي يحاول نمذجته، ويشير نعيم إلى أن بعض المباني تحمل قصصا ومعلومات معمارية مؤثرة.
ويقول نعيم إن تصميم الواجهات والشكل الخارجي للمجسم يكون بذات النسب في الصور الأصلية، بحيث يتم الخروج في النهاية بمجسّم مُطابق للأصل.
ويضيف أن الطاقم الهندسي أولى اهتماما كبيرا بالمباني الأثرية بفلسطين كونها تعتبر تجمعا للحضارات المختلفة، بما يجسد النسيج العمراني المختلف والمتنوع لتلك الحضارات سواء الرومانية أو البيزنطية أو الإسلامية.
ويقول إن الطاقم اهتم بإبراز المباني الأثرية التي لها تاريخ أو طراز معماري مميز يجذب الآخرين للتعرف عليه عن قرب، بجانب تركيزهم على المباني التي تم تأسيسها في نهاية الفترة العثمانية وبداية عهد الانتداب البريطاني.
ويذكر نعيم: “في تلك الفترة أظهر الفلسطينيون اهتماما بارزا بالعمران، حيث أنشأ المهندسون المحليون آنذاك مبانٍ في غاية الجمال، فضلا عن استقدامهم لمهندسين من الخارج بما يشير لعمق اهتمامهم بمواكبة حداثة العمران في ذلك الوقت”.
ويتابع: “تروي المباني القديمة هناك مدى تجذّر الفلسطينيين بأرضهم واهتمامهم في إحياء المدن والقرى آنذاك”.
الفكرة والطموح
يقول المهندس نعيم إن فكرة نمذجة المباني الأثرية في الأراضي الفلسطينية راودت المهندسين عام 2019 بالتزامن “مع تصاعد الهجمة الإسرائيلية على المباني التاريخية في القدس والمدن المحتلة بهدف تهويدها أو طمسها”.
ويضيف: “لكن بدأنا العمل بهذا المشروع مطلع عام 2020 بطاقم من 3 مهندسين ونطمح بافتتاح معرض دائم لهم”.
ويأمل نعيم أن تتم نمذجة أكبر عدد من المباني التاريخية المُميزة في فلسطين ليشعر المتجول في المعرض أنه يعيش داخل المدن والقرى الفلسطينية.
ويشير إلى أنهم شاركوا “المجسّمات التي تم تصميمها في معرضين محليين، وهما معرض نظّمه صندوق الثقافة الفلسطيني عام 2021، ومعرض نظّمته الهيئة العامة للشباب والرياضة”.
ويلفت إلى أن المهندس الفلسطيني يجب أن يكون ملما بكافة التفاصيل التاريخية لفن العمارة في بلاده، ومُطّلعا على الحضارات التي تعاقبت عليها، فضلا عن معرفته بالشكل النهائي الموجود لهذا العمران للمساهمة في الحفاظ عليه من الاندثار والتهويد.
ويتابع: “من خلال هذا الفن ننبه الفلسطينيين بالخطر المُحدق بهذه المباني التي قد يتسبب في انهيارها واندثارها، كما هو الحال مع مئذنة باب الغوانمة، أكثر مئذنة في القدس ارتفاعا (38.5 مترا) وتعود للعهد المملوكي، فهي مهددة بالانهيار جرّاء الحفريات الإسرائيلية أسفلها”.
ويشر نعيم إلى أن إسرائيل هدمت عام 1948 قرى بمبانيها الأثرية وطمست الهوية العمرانية الفلسطينية آنذاك.
ويختتم بالقول: “المدن الفلسطينية ما قبل الاحتلال كانت غنية بالمباني ذات الطرز العمرانية بتفاصيل جمالية عالية جدا”.
وتعد مدينة غزة من مدن العالم القديمة، وخضعت لحكم الفراعنة والإغريق والرومان والبيزنطيين والمسلمين.
المصدر: الأناضول
الرابط المختصر https://insanonline.net/?p=138703