تُعتبر قرية ملبّس المهجّرة قضاء مدينة يافا المحتلة، أوّل قرية فلسطينية استولى عليها المستوطنون الصهاينة إبان العهد العثماني وتحديدا قبل 144 سنة، وأقاموا عليها أول مستعمرة إسرائيلية في فلسطين، أطلقوا عليها اسم “بتاح تكفا” أي (مفتاح الأمل)، والتي يدلّ إسمها على أنها بداية لتأسيس مستوطنات إسرائيلية مشابهة.
كان ذلك عام 1878م وذلك بعد قيام مجموعة صهيونية متطرفة من مدينة القدس بالاستيلاء على قطعة أرض تبلغ مساحتها 3375 دونما في قرية ملبّس ليبدأ الزحف الاستيطاني الإسرائيلي آنذاك دون توقف، إلى أن تحولت إلى ملجأ للمستوطنين ثم مستوطنة زراعية “مشاف” ثم مدينة إسرائيلية معترف بها.
وأكد الدكتور نهاد الشيخ خليل أستاذ التاريخ في الجامعة الإسلامية بغزة على أن قرية مُلبّس تعتبر موقعاً أثريّاً مهماً، حيث تقع على تلٍ منخفض الارتفاع 37 مترا فوق سطح البحر، وهي على الحافة الجنوبية من نهر اليركون (العوجا)، على بعد 1.25 كم عنه، ما جعلها من أكثر المناطق خصوبة وأهمية استراتيجية في الساحل الفلسطيني.
واستعرض الشيخ خليل في حديثه لـ “عربي21” نمط الحياة الاقتصادية وبعض الخصائص الاجتماعية التي كانت سائدة في هذه القرية عبر العصور، استناداً للحفريات التي عُثر عليها خلال أعمال التنقيب الحديثة، وهي خصائص تميّز هذه القرية والعديد من القرى والمناطق المحيطة بها في محيط مدينتي يافا والرملة، وخصوصاً أن هذه القرية.
وأشار إلى أن قرية ملبّس كانت مأهولةً على امتداد التاريخ المعروف لكونها تقع في منطقةٍ شديدة الخصوبة، حيث يرويها نهر العوجا، وهي أيضاً قريبة من خطوط الاتصالات الرئيسية في فلسطين، إلا أنها لم تسكن بشكل متواصل عبر الأزمان بسبب التغييرات السياسية والاقتصادية، كانتشار مرض الملاريا.
وأوضح الشيخ خليل على انه في السنوات الأخيرة، نفذت هيئة الآثار الإسرائيلية عدّة حفريات في تل مُلبّس، تحضيراً لبناء مستعمرة “ليف هاسافيونيم Lev ha-Savyonim” على أراضي القرية التي تم تهجير سكانها الاصليين.
وحذر الأكاديمي الفلسطيني من أن أبحاث وتقارير المؤرّخين والآثاريين الصهاينة، ومن سبقهم من المستشرقين الأوروبيين عن هذه القرية وغيرها من القرى الفلسطينية المهجرة كانت مدفوعةً وموجّهةً بدوافع أيديولوجية استعمارية مركّبة نفياً وإثباتاً.
وأشار إلى الأسماء التوراتية والعبرية التي أطلقها هؤلاء الباحثون على مختلف الأماكن، وعلى طريقة تحقيب ووصف الفترات الزمنية خلال القرون السابقة والتي يظهر فيها الوجود العربي كفترة مؤقتة وقصيرة وسط فترات فارسية ورومانية وبيزنطية وإسلامية وصليبية ومملوكية وعثمانية مهمّشين الاستمرارية التاريخية لوجود أهل البلاد قبل أن يشوّش الاستعمار الغربي الحديث هذه الاستمرارية.
وأوضح ان القرية كانت منطقة مهمة جداً في مسار (Via Maris)، الذي يعبر سهول رأس العين (تل أفيك قديماً)، إضافة إلى أنها لم تبعد كثيراً عن الطرق الرئيسية التي تربط يافا بالقدس، ممّا أكسبها أهميةً كبيرةً في فترة الحكم الروماني.
وأكد أنه كان هناك تبادلا ثقافيا مستمرا وروابط اقتصادية بين قرية ملبّس، والجبال الوسطى، والجزء الجنوبي من فلسطين، وانها كانت كذلك جزءاً من مساحة أوسع للتبادل وتحرّكات السكان مع روابط مع بلاد الشام وخارجها.
وأوضح الشيخ خليل أن قرية ملبّس تقع بين عدة أقاليم، لكلٍّ منها ميزاتها البيئية، حيث يحدّها إلى الشرق محيطُ نهر اليركون (العوجا) الذي تتوفر به مصادر المياه بشكل كبير حيث يمكن عن طريقه إمداد المستوطنات البشرية منذ فجر التاريخ، والمحيطة بكميات كافية من الماء والأراضي الزراعية الخصبة، لكنه تأثّر قديماً بمرض الملاريا.
وأشار الى ان المنطقة المركزية لهذا الإقليم قديما كان يطلق عليها اسم تلُّ أفيك (رأس العين)، الواقع على ضفاف نهر العوجا.
وأوضح أن الإقليم الثاني يتمثل بشمال وجنوب نهر العوجا، الذي يتكون من تلال ذات رمال حمراء غير قابلة للزراعة.
وقال الدكتور مروان قبلان، مدير مركز سيلون للدراسات والأبحاث، والباحث في تاريخ القدس وفلسطين: “في أواخر القرن التاسع عشر كان عدد سكان قرية ملبّس لا يزيد عن 140 نسمة فقط، وكانوا يعتمدون على الزراعة وكانوا يزرعون البطيخ والتبغ والمحاصيل الصيفية الأخرى”.
وأضاف قبلان لـ “عربي21”: “ترجع مأساة القرية إلى عام 1878م حيث قام عدد من الإسرائيليين النمساويين بشراء 3375 دنما من أراضي القرية التي كان يملكها أحد التجار وتم توقيع عقد الشراء في القنصلية النمساوية في مدببة القدس الشريف، وكان ذلك بهدف تأسيس مستعمرة زراعية صهيونية، ولكن الفكرة تعرضت لنكسة بسبب عدم قبول السكان الفلسطينيين لهم وانتشار مرض الملاريا في عام 1881م بسبب المستنقعات التي كانت تحيط في المكان”.
وتابع: “قرية ملبّس كانت أول قرية عربية يقطنها الإسرايليون، حيث أسسوا مستعمرة بتاح تكفا والتي تعني بداية الأمل ونجحوا في التغلب على العقبات الكثيرة التي اعترضتهم حيث جففوا المستنقعات ونجحوا في التحايل على القوانين التي أصدرتها الدولة العثمانية بمنع الهجرة الصهيونية ومنع بيعهم الأراضي.
وأشار الباحث الفلسطيني إلى أن الصهاينة يحتفلون في كل عام يوم 11 تشرين ثاني/ نوفمبر بذكرى تأسيس المستعمرة عام 1878م.
وقال: “بعد احتلال بريطانيا لفلسطين في عام 1917م أصبحت المستعمرة محطة مرور للمهاجرين الصهاينة القادمين من أوروبا وروسيا وصل عدد سكانها إلى 22 الف عام 1948م، حيث وفرت لهم الحماية واسست فيها بلدية وقدمت لها 3000 جنيه فلسطيني في عام 1939م كقرض غير مسترد من اجل دعم مشاريعها المختلفة”.
وأضاف: “كانت المستعمرة مقرا للعصابات الصهيونية التي كانت تهاجم القرى الفلسطينية المجاورة حيث قتلوا عددا كبيرا من الفلسطينيين العزل وشكلوا عصابات كانت تختطف الفلسطينيين العزل وتستولي على ممتلكاتهم، في حين كانت قوات الاحتلال الإنجليزية تغض الطرف عن هذه الأعمال الإجرامية وتحاكم المجرمين بأحكام مخففة وفي محاكم صورية”.
وأوضح أن المستعمرة كانت تتعرض لهجمات الثوار الفلسطينيين والذين تمكنوا من قتل أربعة مستعمرين في عام 1921م، مشيرا إلى أنه وفي الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936م هاجمها الثوار عدة مرات وتمكنوا من قتل عدد كبير من الصهاينة، وعلى إثر هذا عززت قوات الاحتلال الإنجليزي المستعمرة بمئة جندي من أجل حمايتها من هجمات الثوار.
وقال قبلان: “شهدت المستعمرة توترا كبيرا مع الإنجليز قبيل عام 1947م حيث قاموا بالهجوم على قوات الاحتلال الإنجليزي قرب المستعمرة وخطفوا عددا منهم وساومهم على إطلاق سراح بعض الصهاينة الذين سجنوا بسبب جرائم قتل، وقامت قوات الاحتلال الإنجليزي بمحاصرة المستعمرة ومنع التجول عليها بعد تنامي الهجمات على القوات الإنجليزية والمواطنين الفلسطينيين العزل الذين استشهد منهم العشرات”.
وأضاف: “أمام هذا الواقع الذي فرضه الوجود الإسرائيلي في القرية اضطر سكان القرية الفلسطينيين إلى مغادرتها في بداية فترة الاحتلال الإنجليزي لفلسطين بعد أن أصبحوا أقلية صغيرة يعيشون وسط الصهاينة الذين كانوا يعتدون عليهم صبح مساء، وهذا الأمر جعل القرية مهملة من الناحية التاريخية لأن أهلها لم يهجروا في نكبة عام 1948م وكان تهجيرهم في وقت مبكر من زمن الاحتلال الإنجليزي الذي منح الإسرائيليين الحماية والأسلحة التي مهدت لتهجيرهم إلى المدن والقرى الفلسطينية المجاورة”.
واستعرضت نريمان خِلة الباحثة في التاريخ والآثار تاريخ القرية والمد الاستيطان البشري فيها من حوض نهر اليركون (العوجا) الممتدّ من العصر الحجري الحديث إلى نهاية الحكم العثماني، والاحتلال البريطاني والإسرائيلي.
وأكدت على أن القرية كانت في العصر البرونزي موطناً لمجتمع ريفي صغير، كما أُقيمت في العصر الحديدي مستوطنة على أراضها خلال الحكم الفارسي وامتدّت نحو التلال المجاورة لها.
وقالت خِلة لـ “عربي21”: “آثار السكان الأوائل في قرية ملبّس لم تكتشف على أراضيها، وإنما في منطقة اتصال بين التلال الحمراء (حمرا) ومحيط نهر العوجا.
وأضافت: “تم العثور على أحجار صوانٍ تعود للعصر الحجري والتي تشير إلى نمط معيشة يعتمد على الصيد والزراعة”.
وأشارت إلى أنه وُجدت فيما بعد آثار متعدّدة للمستعمرة في تل ملبّس، كذلك كان هناك قبور تعود إلى فترة الحكم الروماني للقرية.
وقالت: “بقي المكان مسكوناً خلال الحكم البيزنطي وبداية الحكم الإسلامي، وكانت طبقاته المكتشفة مماثلةً للآثار المكتَشفة في مناطق قريبة اسمها (الفجّة)”.
وأضافت: “خلال النصف الثاني من القرن العشرين، عُثر خلال نشاطٍ زراعيّ في تلّ ملبّس ومحيطه على معصرة زيتون، وبقايا معدنية وتوابيت يرجع تاريخها للعصر البيزنطي”.
وأشارت إلى أن الحفريات كشفت بقايا حيٍ صناعيٍ يرجع تاريخه لتلك الفترة الزمنية أيضاً، وبقايا بناءٍ تذكاريّ يرجع للقرن الرابع، ومعاصر نبيذٍ وأفران فخارٍ كان وقودها أخشاب شجر البلوط التي كانت تحيط المنطقة.
واعتبرت الباحثة في التاريخ والآثار أن اكتشاف معمل فخار في القرية يدعم المعلومات المتوفرة من بعثات حفرٍ سابقة، حول وجود حيٍّ صناعيّ في المنطقة، قائلة: “وجود معصرة نبيذ تعني الحاجة لصنع أوانٍ فخارية لتخزين ونقل النبيذ بعد إنتاجه الى مناطق اخرى”.
وأضافت: “كما يشهد فرن الطابون والأرضية الفسيفسائية، والأرصفة الحجرية التي عثر عليها على استمرارية الوجود في هذه المستعمرة في بداية الحكم الإسلامي لها”.
وتابعت: “يرمز لقرية مُلبّس بقلعة (بُلبس)، التي سلمها مختار يافا لجيش الاسبتارية عام 1133م، وسلم أيضاً طواحين الجسور الثلاثة (des moulins des trios ponts)، والتي يقصد بها تلك التي في قريتي المير والفاروقية، اللتين تقعان قرب نهر اليركون شمال قرية مُلبّس”.
وأوضحت خِلة أن الحفريات عام عام 2006م و2007م، التي نفّذت تحضيراً لبناء الحي الاستيطاني المعروف باسم “ليف هاسافيونيم”؛ كشفت بقايا بناء يعود تاريخها للعصر الصليبي، بالإضافة إلى أساسات ضخمة من الأرصفة البحرية التي تدعم هيكلاً مقبّباً ومزخرفاً يتربّع على قمة التل.
وقالت: “بُني فوق الركام الصليبي بعد الدمار الذي لحق به في القرن الثاني عشر خزان ماء ضخم من حوضين، مغطىً بطبقةٍ من الجص الهيدروليكي، وتشير آثار قناة الصرف الصحي إلى احتمالية وجود مصدرٍ مائيّ في تلك المنطقة، مرتبط بتربية المواشي، فوجود حدّاد عدداً ضخماً من عظام الحيوانات في محيط منطقة خزان المياه يعني انها تعود للمواشي التي امتلكها سكان القرية”.
وتابعت: “كما كشفت الحفريات كذلك عن آثار مساكن مدمّرة من أحجام مختلفة من حجارة الحقول، وحجارة منحوتة، وتراب أسود، وبقايا فخارية ترجع للعهد المملوكي”.
وأوضحت أنه في عام 883 هجري (1478 ميلادي)، أوقف السلطان الأشرف سيف الدين قايتباي ربع إيرادات القرية للمدرسة الأشرفية في القدس والجامع العمري “الكبير” في مدينة غزة، مؤكدة أنّ عائلة عبد الحميد المصري سكنت القرية خلال القرن التاسع عشر.
وقالت خِلة: “في الثاني عشر من كانون ثاني/ يناير عام 1870م زار الباحث الفرنسي فيكتور جورين القرية ووصفها بأنّها قرية صغيرة يسكنها 140 شخصاً وتحيط بها حقول البطيخ والتبغ”.
وأضافت: “ان الباحثين الذين قاموا بالدراسة الاستقصائية لغرب فلسطين عام 1874م وصفوا القرية بأنّها قرية طينية، وفيها بئر، وتشير هذه التسجيلات لفترات السكن الأخيرة للقرية.
وتابعت: “تم خلال حفريات البحث في الطبقات الأولى لتل ملبّس اكتشاف بقايا نفايات، وبقايا أواني ماء وأنابيب فخارية تعود للقرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين، الأمر الذي يؤكد استمرارية استخدام خزانات الماء خلال فترة الحكم العثماني”.
وأوضحت أن الحفريات كشفت أن القرية كانت تتكوّن من أبنيةٍ من طوب اللبّن وأُسس صخرية، وأنه وجد فيها كذلك بعض من فخار غزة الأسود المعروف باسم (Gray Gaza Ware) والذي يُعدّ أحد مميزات تلك الحقبة التاريخية.
المصدر: عربي21
الرابط المختصر https://insanonline.net/?p=139055