ما زالت معصرة “الجبريني” في البلدة القديمة بمدينة القدس المحتلة تنبض بالحياة منذ نحو 155 عامًا، وتمثل معلمًا أثريًا وصناعيًا بارزًا، وتحافظ على وجودها في ظل اندثار عديد الصناعات بفعل إجراءات الاحتلال الإسرائيلي.
وتعد “الجبريني” أقدم معصرة توارثها الآباء عن الأجداد، وورّثوها للأبناء منذ نعومة أظافرهم، حتى كبروا بين جدرانها ومعداتها التقليدية، وتشبعوا تفاصيل العمل الشاق فيها، وعشقوا المهنة داخل أسوار البلدة القديمة بالقدس.
وتأسست المعصرة، التي تقع بين عقبة الشيخ ريحان والمولوية وقريبة من باب العمود، منذ أكثر من 250 عامًا على يد ثلاث عائلات قبل عائلة الجبريني، التي حافظت عليها منذ قرن ونصف، وتسلمها الوالد إبراهيم لأكثر من 70 عامًا.
ويعمل الشقيقان اسحق وزكريا في المعصرة منذ عامي 1984 و1985، بعد أن تسلماها من والدهما إبراهيم قبل وفاته بثماني سنوات، بالإضافة إلى مساعدة أشقائهم.
وآثر زكريا الجبريني (56 عاما) الحفاظ على معصرة والده، ويقول لوكالة “صفا”: “عملت في المعصرة منذ طفولتي، حيث كنت أساعد والدي وأشقائي وعمري ما بين 5 و6 سنوات، وتمكنت من إتقان العمل فيها بعد أن أصبح عمري 11 عاما”.
ويضيف “أصررت على الاستمرار بالعمل في المعصرة بعد أن تسلمتها من والدي الذي توفي عام 1993 عن عمر ناهز 107 سنوات”.
ويشير إلى أن أولاده تعلموا العمل في المعصرة، لكنهم أصروا على إكمال تعليمهم الأكاديمي؛ “فأحدهم تعلم دكتورًا وآخر مهندسًا، فيما أكملت بناتي التعليم الجامعي”.
صناعات تراثية
وبالنسبة للشقيقين زكريا واسحق لم يعد العمل في المعصرة يتعلق بالمردود المادي، وإنما تعداه للحفاظ على هذه الصناعة التراثية داخل البلدة القديمة.
ويؤكد زكريا أن صموده في العمل بالمعصرة رغم العمل الشاق فيها يهدف للحفاظ على وجودهم ولحماية إحدى الصناعات التراثية في البلدة القديمة بالقدس، التي اندثرت مع السنوات بفعل ضغوطات وتضييقات الاحتلال.
ويُفاجأ الزائر للمعصرة بصمود هذا المعلم التراثي، الذي يضم آلات وحجارة قديمة للغاية وفرنًا، كشاهد على وجودها منذ عشرات السنين.
ويضيف زكريا، لوكالة “صفا”، “لم يعد الأمر يتعلق بالمردود المادي وإنما الحفاظ على تراث هذه الصناعة داخل البلدة القديمة، فما نفكر فيه ليس الربح والتجارة وإنما الحفاظ على المعصرة التي حافظ عليها والدنا من قبلنا منذ أكثر 120 عامًا”.
ويتابع “العمل في المعصرة متعب وشاق جدًا، وأصعب من العمل في الإسمنت، لكن رغم صعوبته إلا أننا مصرون على مواصلة العمل فيها حتى آخر يوم في حياتنا”.
بِمَ تتميز المعصرة؟
وعن الأمور التي تُميز معصرة الجبريني عن غيرها، يقول زكريا: “العمل لدينا يختلف عن بقية المعاصر، لأن عملنا تقليدي وطبيعي لا يوجد فيه إضافات على الطحينة وغيرها، فالطحينة 100% سمسم، ومنها أنواع الطحينة بقشرها وأخرى بالقزحة، بالاضافة إلى الطحينة الحمراء المحمصة”.
كما يُصنع داخل المعصرة السيرج، والحلاوة والسمسمية بالدبس، وزيت السمسم، ويعد السمسم يدويًا من النقع والتقشير والتحميص.
أما المصانع فيختلف عملها في إعداد الطحينة، إذ تضع السمسم في الآلات وتخرج من الجهة الثانية طحينة، وهناك متاجر تصنعها بالصودا الكاوية، وأخرى تقشر السمسم وتضع موادًا إضافية ملونة ومبيضة أو طحين ونشاء وزيت لتحسين جودتها، وفق زكريا.
ويلفت إلى أن سعر الطحينة منخفض في بعض مدن الضفة الغربية “لأن الفرق واضح؛ فعندما تفتح مرطبان الطحينة تجد نصفه سيرج وتحته رواسب طحينة جامدة، أما في معصرة الجبريني فلا يوجد سيرج متراكم فيه، أوله وآخره طحينة”.
أما بالنسبة للأسعار؛ يقول زكريا: “نحن لا نتقيد بأسعار المحال التجارية التي توزع الطحينة، إذ نعد كميات قليلة ونعتمد على الزبون الذي يحضر للمعصرة للشراء، ولا نوزع بالجملة”.
معصرة الصالحي
وتحتضن البلدة القديمة في القدس، وتحديدًا باب السلسلة، معصرة أخرى تعود لعائلة الصالحي، تأسست منذ خمسينات القرن الماضي، لكن عملها قليل للغاية حاليًا بسبب أوضاع البلدة القديمة والحصار وتضييقات الاحتلال.
وتتمثل أبرز التضييقات في تحرير المخالفات، وتغريم السيارات التي تقف أمام المحال التجارية بالمنطقة، عدا عن فرض الضرائب وتحرير موظفي بلدية الاحتلال وصحته مخالفات متجددة بحق التجار، بهدف الضغط عليهم لترك البلدة القديمة، وهو ما أدى لتخفيض القوة الشرائية في المنطقة.
ملاحقة مستمرة
وعن تضييقات الاحتلال، يقول زكريا: “عانينا من ملاحقات موظفي الضرائب الذين فرضوا علينا مبالغ طائلة عدة مرات، وفي كل مرة يفرضون ما بين 100 و120 ألف شيكل (الدولار = 3.43 شيكل)، بالإضافة إلى 50 أو 60 ألف شيكل ندفعها في العام، وإذا لم ندفع يغلقون المعصرة ويحجزون على الحساب بالبريد والبنك، ثم نقوم بتقسيط المبلغ ودفعه بالتدريج”.
ورغم ضغوطات الاحتلال، يضيف “وجودنا وصمودنا في هذه المعصرة داخل البلدة القديمة بالقدس أكبر رباط، فنحن في أكناف المسجد الأقصى”.
الحب والشغف بالمعصرة
من جانبه، يقول شقيقه اسحق إن: “المعصرة تعني لنا الكثير، فقد ورثناها عن والدنا الذي قضى حياته فيها منذ كان عمره 8 سنوات، ونحن تعلمنا العمل من بعده”.
ويضيف “لم يعد عملنا بالمعصرة من أجل المردود المادي، بقدر حبنا وشغفنا بالعمل فيها، في حين أن هناك مغريات كثيرة للخروج من البلدة القديمة وإقامة مصنع كبير، لكن حبنا للمعصرة وحجارتها والمعدات القديمة منعنا من ذلك”.
المصدر: صفا
الرابط المختصر https://insanonline.net/?p=139108