سياسات الاحتلال في احتجاز الجثامين الفلسطينية..الحسابات الحقيقية والأسباب المعلنة

من جملة جرائم الاحتلال الإسرائيلي بحق الفلسطيني قتل المتظاهرين والشباب الفلسطينيين واحتجاز جثامينهم، في محاولة لتلبية شهوة الانتقام ومحاولة ترهيب شعب تحت الاحتلال ومنعه من مقاومته. ومن آخر هذه الجرائم قرار وزير الأمن الإسرائيلي السابق بيني غانتس، في يوم 21 ديسمبر/ كانون الأول، بعدم تسليم جثمان الأسير الشهيد ناصر أبو حميد إلى عائلته في مخيم الأمعري من أجل دفنه وفقاً للتقاليد الإسلامية، وهو ما تكفله الشرائع الدينية والدنيوية كافة والقانون الدولي وسائر المعاهدات الدولية المتصلة بالحروب والنزاعات.

 إن سياسة احتجاز وعدم تسليم جثامين الشهداء الفلسطينيين، ودفنها بشكل مؤقت، تعد واحدة من الإجراءات القديمة والثابتة، وسلوكاً كان يلجأ إليه جيش الاحتلال الإسرائيلي على اعتبار أنه “إجراء طارئ وغير محدد المعالم، يخضع لاعتبارات أمنية وسياسية ولضرورات إجراء تبادل أسرى، يتم بشكل تلقائي وكأمر واقع”، وفق ما نشرته منظمة مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة (بتسيلم) على موقعها، في 22 أكتوبر/ تشرين الأول 2019. هذا قبل أن يتحول هذا الإجراء إلى سياسة منهجية يغطيها إطار قانوني وتحيط بها تنظيرات أيديولوجية تقوم على مبدأ “جمع الجثث” وتحويلها إلى “ورقة مساومة” في مواجهة مطالب فصائل فلسطينية (وحزب الله سابقاً) بمبادلة أسرى فلسطينيين بجثث جنود إسرائيليين محتجزة لديها.

البيت اليهودي

ويوضح المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية (مدار) أن التحول الأكبر في هذه السياسة الإسرائيلية طرأ عندما تولى رئيس حزب “البيت اليهودي” نفتالي بينيت وزارة الأمن، في العام 2019، وأصدر تعليماته إلى قادة الجيش بالتوقف “كلياً عن إعادة جثامين الشهداء، ومن كافة الفصائل الفلسطينية (بعد أن كانت مقتصرة على من ينفذ عمليات خطيرة أو من حركة حماس)، بغض النظر عن انتماء أو تهمة الشخص المحتجز جثمانه”، مع الإبقاء على استثناءات قليلة “تخضع لمصادقته وتقديره للظروف” المحيطة بها. ويلفت إلى أن محاولة نفتالي بينيت هذه جاءت بعد سنوات قليلة على أخرى شبيهة قام بها في ذات الوزارة سلفه أفيغدور ليبرمان، وهي محاولة واجهت معارضة شديدة من قبل المستشار القانوني للحكومة ومنظومة الأمن، بما فيها قادة الجيش، وأدت إلى التراجع عنها في ذلك الوقت. وأثار قرار نفتالي بينيت، حتى قبل عرضه على المجلس الأمني والسياسي المصغر (الكابينيت)، نقاشاً واسعاً في الأوساط القضائية والأمنية والإعلامية الإسرائيلية، سرعان ما انتقل إلى أروقة القضاء.

الموقف القانوني

ويتابع “مدار”: “ساد الاعتقاد لدى كثير من السياسيين ورجال الأمن السابقين والأكاديميين في إسرائيل بأن محاولة تبني سياسة جديدة تجاه الجثامين الفلسطينية المحتجزة سوف تضر بسمعة الجيش وصورة إسرائيل أمام العالم، لما تنطوي عليه من مساس بحقوق الإنسان، إضافة إلى عدم جدواها أمنياً، وكونها لم تحقق الغايات المرجوّة من ورائها، سواء في تحقيق الردع لدى الجمهور العريض، أو في الضغط على الفصائل الفلسطينية وإجبارها على تنفيذ صفقة تبادل مريحة”. منوها أن الموقف القانوني الأبرز في هذا السياق، هو موقف المستشار القانوني للحكومة الإسرائيلية، والقاضي السابق في المحكمة العليا ميني مزوز، الذي قدم لحكومة الاحتلال توصية في العام 2004 عارض فيها تحويل عملية احتجاز جثامين الشهداء إلى سياسة دائمة “غير مقيّدة وجارفة”، مؤكداً أنه “لا يمكن احتجاز الجثامين لغرض التبادل سوى في حالات خاصة”، وفي ظل وجود صفقة محددة، أو “بسبب الخشية من أن إعادة (جثمان محدد) قد تشكل خطراً على الأمن العام وسلامة الجمهور.

هامش المناورة

ويقول المركز إن هذه التوصية جاءت لتضفي المزيد من القوة على السياسة القائمة بالفعل، وتسويغ الاعتبارات التي تستند إليها، وهي اعتبارات وصيغ فضفاضة، تمنح الدولة ووزير الأمن هامشاً واسعاً من المناورة والتحكم في الإبقاء على عدد غير محدد من الجثامين ولفترة غير مقيدة، طالما أن هناك “خطراً أمنياً من وراء إعادة الجثامين، أو بسبب أن وجودها في يد الجيش والتحفظ عليها يخدم الأمن”. ويقول إن إسرائيل تعايشت مع هذه السياسة الغامضة والفضفاضة منذ إنشائها، وحقّقت من ورائها الغايات التي أرادتها، بدون أن تثير ردود فعل وانتقادات داخلية وخارجية، كما أن المنظومة القضائية لاءمت نفسها معها، وعرفت كيف تدافع عنها، طالما أنها “مؤقتة” وانتقائية وغير جارفة.

ويرى “مدار” أن تصاعد العمليات الفردية، منذ العام 2015، وتسلّم وزراء من اليمين المتطرف وزارة الأمن في حكومات الاحتلال، ووجود جثث لجنود إسرائيليين محتجزة لدى حركة حماس في غزة، وما ولده ذلك من ضغط إعلامي إلى جانب الضغوط العاطفية والسياسية من قبل عائلات الجنود، كل ذلك أدى إلى توسع عملية الاحتجاز، وتحولها إلى سياسة ثابتة، وإن بشكل غير معلن.

ضغط جماهيري

وبرأيه تزامن هذا الضغط الإعلامي والجماهيري في إسرائيل مع نضال شعبي وقانوني فلسطيني ضد هذه السياسة، خاضته عائلات شهداء محتجزة جثامينهم. على الشق الآخر من المتراس، ساندتهم فيه منظمات حقوقية، خاصة بعد أن تبنى الكابينيت الإسرائيلي، في بداية العام 2017، قراراً واضحاً يقضي بتبني سياسة صارمة لمعالجة قضية جثامين الشهداء، وفق مبدأ “عدم التساهل في تسليم جثامين الشهداء ووضع معايير تحددها أجهزة الأمن”. ويستذكر أن المحكمة العليا الإسرائيلية نظرت، في العام 2017، في الالتماسات المقدمة من عائلات الشهداء، وقررت بأغلبية هيئتها اعتبار “قرار الكابينيت احتجاز جثامين الشهداء الذين نفذوا عمليات ضد إسرائيل غير قانوني وينطوي على مساس بحقوق الميت وعائلته”، وأنه لا يوجد مسوغ قانوني حتى الآن يجيز هذه السياسة.

وعادت المحكمة الإسرائيلية العليا، في العام 2019، وانقلبت على قرارها السابق، حيث عقدت بتركيبة أوسع مشّكلة من سبعة قضاة، ونظرت في مسألة “عدم وجود مسوغ قانوني” يمكن الاستناد إليه في تبرير هذه السياسة. وقرّرت هذه المحكمة أنه بالإمكان “الاستناد إلى قانون انتدابي” يمنح قادة الجيش في الميدان صلاحية التقرير في “اختيار مكان دفن” الجثامين بشكل طارئ ومؤقت لاعتبارات أمنية تتعلق بأمن الدولة وسلامة مواطنيها، معتبرة أن هذا النص القديم كاف لتبرير السياسة التي تنوي الحكومة تنفيذها.

 ويوضح “مدار” أن قرار المحكمة العليا الأخير هذا بعث الارتياح لدى المستوى السياسي، إلا أنه لم يكن كافياً، وشابه الكثير من النقص، ولم يقدم لمؤيدي سياسة احتجاز الجثامين الأداة القانونية اللازمة، ذلك أنه كان يتعلق بستة جثامين محددة، ولم يكن نقاشاً مبدئياً حول هذه السياسة بشكل عام، خاصة أن الدولة، وفي معرض دفاعها، اعتبرت أن “الاحتفاظ بهذه الجثامين (الستة) سيساعد في عملية إنجاز تبادل (محددة) مع حركة حماس في غزة”، كما أنه لم ينكر “أن هذه السياسة فيها مساس بحقوق وكرامة الميت وعائلته”، وأخيراً لأنه تضمن توصية تشدد على أن تكون هذه السياسة مقيدة وضمن معايير واعتبارات واضحة. ويرى أنه استناداً إلى التفسير الفضفاض للنص الانتدابي الذي قدمته المحكمة العليا، برئاسة القاضية إستير حيوت، والذي يفوض قادة الجيش تحديد مكان وموعد دفن جثامين الشهداء، واصلت إسرائيل سياستها القديمة، لا بل تشددت بها، حيث قرر الكابينيت، في أيلول الماضي، تبني توصية وزير الدفاع غانتس بـ”عدم إعادة جثامين الشهداء من مختلف التنظيمات”.

محاولة سنّ قانون

ويتابع: “لم يكن من باب المصادفة عدم وجود قانون إسرائيلي خاص حول سياسة الاحتفاظ بجثامين الشهداء حتى الآن، وذلك بسبب التعقيدات الكامنة به، والإحراج الذي يمكن أن يتسبب به لإسرائيل وصورتها أمام العالم، كونه يتناقض في جوهره مع حقوق الإنسان الأساسية، وعلى اعتبار أن هذه الصيغة المرنة التي تستند إلى تفسيرات لقوانين انتدابية، يمكن أن تفي بالغرض”. ويقول إنه لهذه الأسباب عارضَ حتى أكثر الداعين لانتهاج سياسة متشددة في احتجاز جثامين الشهداء، صيغة القانون التي تقدم بها عضو الكنيست المتطرف بتسلئيل سموتريتش وقدمها للكنيست في 25/05/2022، حيث سقط القرار بأغلبية 62 صوتاً مقابل 50 بعد أن صوت ضده رئيس الحكومة الأسبق نفتالي بينيت ووزير الأمن السابق بيني غانتس.

معارضة شكلية

لا تلقى سياسة إسرائيل في احتجاز جثامين الشهداء معارضة مبدئية بسبب كونها تتعارض مع حقوق الإنسان، وتشكل مساساً بكرامة الميت وعائلته، وفق ما نص عليه القانون الدولي الإنساني واعترفت به ضمناً المحكمة الإسرائيلية العليا. كما أن معارضة جهاز الأمن العام والجيش، وكذلك معارضة المستشارين القانونيين للحكومة، في فترات مختلفة، إنما نبعت من رفض التغيير في السياسة القائمة والغامضة الفضفاضة التي تمنح إسرائيل هامشاً واسعاً من التنكر والمراوغة أمام المجتمع الدولي، وعدم تحول القضية الحساسة والمثيرة للجدل دولياً إلى قضية صراع حزبي ومادة للمزايدة السياسية داخلياً.

وبرأي “مدار” تشكل منظومة الأمن، بأذرعها المختلفة، نوعاً من الضابط أو الحاجز الزجاجي الذي يحجّم السياسيين ونزواتهم المنفلتة، والذين يتصرفون بدوافع تتراوح بين الاعتبارات الأيديولوجية، أو بسبب الضغط الشعبي، أو لكسب نقاط إعلامية، ويخلّون بمعادلات ساهمت في إبقاء إسرائيل خارج دائرة الإدانة الواضحة حتى الآن. كذلك تلعب المحكمة العليا دوراً في تشذيب القرارات المتعارضة بشكل فاضح مع حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، وتعيد بذلك تبييض صفحة الاحتلال وانتهاكاته، حيث قامت المحكمة العليا الإسرائيلية، وعبر عقود من الاحتلال، “بإضفاء شرعية (تقريباً) لكل اختراق لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة من خلال تقديمها تفسيرات قانونية خالية من المضمون وغير صحيحة لمبادئ القانون الدولي.. بما في ذلك قرار المحكمة العليا (في قضية احتجاز جثامين الشهداء) الذي يعتبر حلقة من سلسلة أثبتت فيها المحكمة أنها مستعدة لإسباغ الشرعية على كل ظلم ومساس بحقوق الإنسان طالما أن الضحية فلسطيني”، وفق ما جاء في تعليق مركز بتسيلم لحقوق الإنسان على قرار المحكمة العليا الذي أجاز الاحتجاز بالاستناد إلى نصوص انتدابية.

ويخلص “مدار” للقول إنه يتضح مما سبق أنه كلما ازدادت الحكومات الإسرائيلية تشدداً في القضايا التي تتعلق بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وكلما أصبحت الإجراءات التي يمارسها جيش الاحتلال في الأراضي المحتلة وضد الفلسطينيين فاضحة في تعارضها مع القانون الدولي، فإن المنظومة الأمنية ومحكمة العدل العليا ستجدان الصيغ الفضفاضة والخالية من المضمون من أجل تبريرها ومسايرة مزاج السياسيين الذي بات ينزاح أكثر فأكثر نحو مزيد من التطرف اليميني والفاشية، كما أظهرت نتائج الانتخابات الأخيرة.

يشار إلى أن احتجاز الجثامين نهج إسرائيلي قديم جداً منذ انطلاق الأعمال الفدائية، حيث تحتجز مئات من رفات هؤلاء في عدة مقابر تعرف بـ “مقابر الأرقام”، منها مقبرة وادي الحمام شمال مدينة طبرية، داخل أراضي 48، حيث ما تزال جثامين المئات من الفدائيين الفلسطينيين ترقد في قبور دارسة نتيجة الإهمال منذ عقود الستينيات والسبعينيات في انتظار استعادتها، أو أن يتعرف ذووهم عليهم، وذلك رغم اتفاقات أوسلو وصفقات تبادل الأسرى والقتلى التي أعقبت المواجهات العسكرية. في السنوات الأخيرة كشف عن أربع مقابر للفدائيين الفلسطينيين، معظمها داخل أراضي 48 هي “مقبرة الأرقام” المجاورة لجسر “بنات يعقوب”، بجوار نهر الأردن شمال البلاد، ومقبرة بير المكسور، وأخرى تقع في منطقة عسكرية مغلقة بين أريحا وجسر دامية، ومقبرة شحيطة في قرية وادي الحمام بجوار مدينة طبرية.