“ما بدي أبكي بس أنا خفت كثير على أمي وأبي وإخوتي” بهذه الكلمات بررت الطفلة ريتاج بُكاءها وهي تتحدث عن جريمة حرق منزلها التي ارتكبها المستوطنون، ونجاتها مع عائلتها من موت وشيك أمس الأول.
وكان الوقت صباحا عندما سمعت ذات الـ 10 أعوام صوت انفجار قوي، حين كان والدها يحاول إخراجها هي شقيقتها من الغرفة الأقرب إلى مكان الحريق “في البداية لم أستوعب أن البيت يحترق، فلم أتمكن من رؤية شيء بسبب الدخان الكثيف، ولكن عندما حملني والدي لإخراجي كانت النيران قريبة جدا” هكذا تقول الفتاة للجزيرة نت.
وتعيش ريتاج مع والديها وأشقائها الثلاثة في بلدة سنجل شمال مدينة رام الله بالضفة الغربية، والتي كانت محط اعتداءات المستوطنين خلال العام الفائت، إلا أنها لم تتوقع يوما أن يكون منزلها هدفا لهذه الاعتداءات.
ولم يشاهد والدها أحمد ماهر عواشرة المستوطنين بشكل مباشر، ولكنه عندما استيقظ على صوت انفجار في البيت سمع أصوات أشخاص خارجه من الجهة الخلفية حيث نافذة المطبخ التي وجدها فيما بعد محطمة.
ويعد منزل عائلة عواشرة الأقرب إلى الشارع الرئيسي حيث يتجمع المستوطنون، وهو ما جعل عواشرة يقوم بتأمين المنزل ببناء جدار أسمنتي من الجهة الأمامية، لكن عندما كان يشتد اعتداء المستوطنين على القرية، تغادر الأسرة المنزل وتنتقل إلى بيت الجد وسط القرية.
وكانت كل مساعي الوالد تجنيب أطفاله الخوف الذي كان يراه على وجوههم عند سماع اعتداءات المستوطنين، أو غنائهم ورقصهم وصراخهم على المفرق القريب، وخاصة بعد حرق بلدة حوارة التي تقع على امتداد نفس الشارع من جهة مدينة نابلس شمالا.
حرق كل شيء
رغم صدمته ومصابه بخسارته كل ما يملكه في المنزل الذي قام بترميمه والسكن فيه منذ عام 2009، إلا أن خوفه الأكبر كان على سلامة أطفاله، وإبعادهم عن مشهد الحرق والدمار.
التقينا الأطفال في منزل الجد، حيث التف حولهم أفراد العائلة لتهدئتهم، ورغم ذلك كان الأطفال الأربعة في هذا المكان مدركين تماما أنهم خسروا كل شيء، كما قالت لنا ريتاج “حرق كل شيء، كتبي وملابسي وألعابي، لم يتبق لنا شيء”.
ريتاج كانت قوية في التعبير عن نفسها والحزن الذي تشعر به، ومع ذلك كانت آثار الصدمة بادية على وجهها، هي وشقيقتها الصغرى ريتال التي تصدر مشهد بكائها بعد إخراجها من المنزل وسائل الإعلام.
طوال الوقت كانت ريتال (6 أعوام) تلتصق بوالدتها، وخلال حديثها للجزيرة نت قالت إنها لن تبكي وهي تروي تفاصيل ما حدث، ولكنها حزينة على بيتها الذي ولدت وكبرت فيه.
جرائم متواصلة
قصة ريتال وأشقائها لم تكن الوحيدة في سياق التعرض للصدمات النفسية جراء الاعتداءات المتكررة من المستوطنين، ومحاولات حرق منازلهم والتي ارتبطت بأذهان الفلسطينيين بحرق عائلة دوابشة عام 2015.
ولقد عانى عشرات الأطفال، من قرى بلدات جنوب نابلس، من أعراض نفسية تحتاج إلى تدخلات عاجلة، كما يقول طبيب الأمراض النفسية والأعصاب محمود سحويل، خاصة مع تعرضهم على مدار أكثر من عام لاعتداءات المستوطنين المتكررة، كان آخرها حرق بلدة حوارة في 26 فبراير/شباط الفائت.
وقد سحويل -في حديثه للجزيرة نت- تعريفا للصدمة النفسية بأنها “أحداث تتخطى حدود التجربة الإنسانية المألوفة، ينتج عنها ردود أفعال أو أعراض، تتمثل في شكل خوف، حزن، كوابيس، جمود عاطفي، نوبات من البكاء، الغضب فقدان للثقة.. إلخ”.
وهذه الأعراض يمكن أن تكون آنية مؤقتة تستمر أسابيع فقط، وبعضها يمكن أن يتحول لحالات مرضية، تتمثل باضطراب النوم، زيادة ضربات القلب، الرعشة اللاإرادية، التبول اللاإرادي، تجنب الاختلاط، نوبات الهلع، الصراخ والبكاء، صعوبات التركيز والكلام، فضلا عن نتف الشعر، بحسب الطبيب النفسي.
وللتخفيف وتجنب هذه الأعراض، يوضح سحويل أن الطفل بحاجة لتدخلات سريعة تساعده على تفريغ الشحنات السلبية التي يشعر بها، ودعم عائلي ومجتمعي، إلى جانب سرعة ترميم البيئة التي ينتمي لها وعودته لحياته العادية.
ذاكرة الحرق
لكن هذه التدخلات قد تبدو غير كافية مع تعقيدات الحالة الفلسطينية، وذلك بسبب تكرار هذه الأحداث واستمرارها بشكل ممنهج، ففي بعض المناطق اعتداءات المستوطنين مستمرة منذ سنوات.
قرية بورين، جنوب نابلس شمال الضفة، من المناطق التي لم تتوقف فيها هذه الاعتداءات منذ سنوات، خاصة المنازل المعزولة قرب المستوطنات، كما هو الحال مع منزل عائلة صوفان.
حلا أيمن صوفان (12 عاما) تتحدث للجزيرة نت عن الرعب اليومي الذي تعيشه مع عائلتها (والدها ووالدتها وأشقائها الأربعة، وعمها وزوجته وطفليهما) جراء اعتداءات المتطرفين في مستوطنة يتسهار المقامة على أراضي البلدة.
وهذا المنزل الأقرب للمستوطنة، ومنذ 20 عاما، يحاول المستوطنون الضغط على العائلة للسيطرة على الأراضي المحيطة به، حيث حاولوا حرقه أكثر من مرة، أولها عام 2002 وآخرها ما جرى في 26 فبراير/شباط الفائت.
وتصف حلا ذلك اليوم بأنه أصعب أيام حياتها، حين تجمع أكثر من 100 مستوطن حول المنزل، يصرخون ويرشقون الحجارة قبل أن يشعلوا النيران في الغرفة الخارجية ويحرقوا مركبات العائلة.
وهذا المشهد أشعل ذاكرتها بما سمعته من والدها وأعمامها حين حاول المستوطنون حرق المنزل وهم أطفال، لذلك شعرت حينها بخوف كبير.
علاج نفسي واجتماعي
مثل حلا هناك 25 طفلا في البلدة -تقل أعمارهم عن 15 عاما- يتلقون علاجا لمساعدتهم في تخطي الآثار النفسية.
يقول غسان النجار -أحد نشطاء لجنة القرية لمقاومة الاستيطان- إن الأهالي لاحظوا اضطرابات بسلوك أبنائهم، وجميعها حالات مستجدة خلال العام الأخير، مما استدعى قيام اللجنة بالتنسيق مع مؤسسات أهلية تقدم دعما نفسيا للأطفال.
وأوضح أن أبرز الأعراض التي تحدث عنها الأهالي مشاكل في التعليم والنوم وعدم التركيز والتبول اللاإرادي، والخوف من الخروج من المنازل أو الذهاب إلى المدارس.
وإلى جانب التدخل النفسي مع أخصائيين، تقوم هذه المؤسسات بإقامة فعاليات فنية ورياضية ومجتمعية للأطفال لمساعدتهم في التفريغ، بحسب حديث النجار للجزيرة نت.
تحرك شامل
ما تقوم به لجنة مقاومة الاستيطان في بورين، بمبادرات محلية، قد لا يتوفر في كثير من التجمعات الفلسطينية التي تتعرض لاعتداءات دائمة، وهو ما يحتم تحركا وطنيا شاملا، كما يقول الطبيب النفسي، مضيفا “قمنا بإجراء دراسة مسحية قبل 10 سنوات وتبين أن 21% من الفلسطينيين بحاجة لتدخلات نفسية عاجلة، أعتقد أن هذه النسبة زادت كثيرا”.
وأردف سحويل “نحتاج لإجراء دراسة شاملة لتقييم المشكلة ثم وضع إستراتيجية وطنية لمعالجة كل الآثار النفسية المترتبة عليها لدى الأطفال، كي لا تتفاقم بعد سنوات لأمراض مجتمعية خطيرة”.
إياس إياد الضميدي (9 سنوات) قد يكون أحد الأطفال الذين يحتاجون لتدخلات آنية وطويلة الأمد -كما يشخص سحويل- وهو الذي كان مع والدته وأشقائه الأصغر حين تعرض منزل العائلة لمحاولة الحرق في بلدة حوارة قبل شهر.
وقد تجمع المستوطنون أسفل منزله وقاموا بتكسير النوافذ وألقوا القنابل الحارقة، وبرفقتهم جنود الاحتلال الذين أمطروا المنطقة بقنابل الغاز، مما أدى إلى إصابة ابن عمه في البيت القريب بقنبلة في رأسه، بينما كان والده وشقيقه الأكبر خارج المنزل.
وحاولت والدته طمأنته وأشقاءه، إلا أن صراخ المستوطنين المتواصل وحرقهم المنازل القريبة جعلهم يشعرون بالخوف الشديد، وفقد شقيقه الأصغر النطق لأيام بعدها، ويقول إياس “كانت ليلة رعب شعرت أنه آخر يوم بحياتي”.
الجزيرة نت
الرابط المختصر https://insanonline.net/?p=140485