كما كان متوقعا، أعلن قادة الاحتلال أن الهدف من العدوان الجديد على جنين هو “تفكيك بنى الإرهاب وتدمير مقراته ومقدراته العسكرية”، وبالتزامن سعت أبواقه لتضخيم قوة الشباب المقاومين داخل مخيم صغير محاصر.
وهذا الموقف الإسرائيلي المعلن يحاول التستر على أهداف أخرى غير معلنة وهي الإمعان في محاولة الإجهاز على معاقل المقاومة وهي في مهدها وقبل أن تكبر وتزداد قوة وتحديا، وسط محاولة الانفراد بالمعاقل المقاومة تباعا لا دفعة واحدة.
وهذا يندرج ضمن استراتيجية “حز العشب” التي يعمل بموجبها الاحتلال منذ عقود لكنه يصعد في تنفيذها بشكل وحشي من خلال مداهمات واعتقالات يومية وجرائم قتل لا تتوقف في إطار حملة ” كاسر الأمواج” التي أطلقتها حكومة الاحتلال في مارس/آذار 2022.
ليس هذا فحسب بل يطمع الاحتلال بهذا العدوان الجديد بالانتقام من مخيم جنين بعدما نجح مقاوموه قبل نحو ثلاثة أسابيع في إصابة ثمانية جنود وإعطاب عدد مماثل من المدرعات وإصابة هيبة الجيش. لهذه الغاية حشد أكثر من ألف جندي من تشكيلاته العسكرية الجوية والبرية ووحداته الخاصة مقابل عشرات من شباب المخيم ممن يملكون أسلحة خفيفة وقليل من الذخائر والكثير من العزيمة والتصميم.
عدوان بالتقسيط
رغم الدعوات الكثيرة لاجتياح الضفة الغربية في حملة “سور واق” ثانية، اختار الاحتلال القيام بحملة محددة في جنين من المتوقع أن تتبعها حملات مماثلة قي مواقع أخرى في الضفة الغربية مثل نابلس ومخيم بلاطة ومخيم عقبة جبر في أريحا وغيره. بذلك تتحاشى إسرائيل سقوط جنود من جيشها خاصة أنها باتت أكثر حساسية للخسائر البشرية اليوم أكثر من أي فترة سابقة كي تبقى بصورة الجيش الذي لا يقهر يقتل ويفعل ما يحلو له دون إصابات في صفوفه أملا باستعادة ما يعرف بقوة الردع.
لماذا الآن ؟
يُسأل مثل هذا السؤال لأن الحاجة لترميم “قوة الردع” ولدت قبل ثلاثة أسابيع بعدما أربك شباب مخيم جنين الجيش المدجج بالأسلحة والعتاد ونجح بمباغتته وهو الذي جاء ليفاجئ المخيم بحملة قوية. الآن قرر قادة الاحتلال شن هذا العدوان على جنين بعدما تم استجماع معطيات استخباراتية ميدانية عن مكامن القوة والضعف في مخيم جنين، علاوة على التريث لبناء خطة عسكرية ملائمة لـ”فتح” مخيم جنين ومباغتته والاستفادة عسكريا من عنصر المفاجاة. كانت هذه الأسابيع الثلاثة لشيطنة مخيم جنين وتصويره كتهديد استراتيجي على إسرائيل وذلك أمام الإسرائيليين وأمام المجتمع الدولي وسط استغلال لـ”الهدية” المجانية المتمثلة بصور صواريخ تطلق من المخيم نحو المستوطنات داخل أراضي الـ48 قبل أن تنضج وتكون وسيلة عسكرية حقيقية.
لا يخلو التوقيت أيضا من حسابات إسرائيلية داخلية تتمثل على ما يبدو بضربة استباقية تضعف احتجاجات المعارضة التي أعلن عن تصعيدها اليوم الإثنين ضد خطة التشريعات القضائية.
هل تنجح إسرائيل في توفير الأمن والأمان للإسرائيليين وتظفر بالهدوء المشتهى داخل الضفة الغربية بعد عملية واسعة في جنين؟ مهما كبرت الحملة على معاقل المقاومة خاصة في جنين فإنها لن تحقق الأمن للإسرائيليين بل بالعكس لأن المقاومة توجد حيث يوجد احتلال كما تدلل تجارب التاريخ في أمكنة وأزمنة أخرى أيضا. كذلك، فإن الدم الفلسطيني المسفوح سيولد رغبة جامحة بالثأر مهما مال ميزان القوى لصالح الاحتلال.
ولذا يحذر بعض العقلاء في إسرائيل من مواصلة الرهان على سياسات البلطة والعصا والقوة المفرطة التي تقودها حكومة نتنياهو السادسة مدفوعة بوزراء غيبيين مستوطنين يطمعون بحسم الصراع مع الشعب الفلسطيني بالحديد والنار وكي وعيهم بذلك تمهيدا لضم الضفة الغربية المحتلة كما جاء في نظرية الحسم لرئيس حزب الصهيونية الدينية الوزير الإضافي في وزارة الأمن باتسلئيل سموتريتش.
نتنياهو لا يختلف في الجوهر عن سموتريتش لكنه يريد تطبيق ذلك بالتقسيط وبحذر كي لا تنهار السلطة الفلسطينية وكي تبقى بمثابة بلدية وهيئة للتنسيق الأمني تزامنا مع اقتلاع طموح الفلسطينيين بالاستقلال وتقرير المصير كما قال قبل أيام. كما يخشى نتنياهو تبعات الحملة الواسعة على كل الضفة الغربية دوليا خاصة أن هناك تحفظا شديدا من بعض مكوناتها كوزراء المستوطنين المدانين بالارهاب. كما يخشى نتنياهو مما يعرف بلحمة الساحات ومن انفجار جديد داخل أراضي 48 على غرار هبة الكرامة في أيار 2021.
جريمة حرب جديدة
في هذا المضمار، أكّدت كتلة الجبهة والعربية للتغيير في الكنيست، في بيان لها، أن الاجتياح الإسرائيلي على جنين، مساء الأحد، هو جريمة حرب جديدة ضد شعب أعزل تضاف إلى السجّل الأسود لحكومات الحرب والاحتلال المتتالية، وأن مثل هذه الاعتداءات المتكرِّرة تحصد في كل مرّة أرواح الأبرياء من النساء والأطفال والشيوخ وتهدم البنى التحتية، خاصة وأن العدوان شمل قصف الأحياء السكنية وعرّض المواطنين العزّل للخطر، ما أدى إلى ارتقاء الشهداء والجرحى.
وحذّرت الكتلة من نوايا الحكومة توسيع رقعة العدوان ليشمل نابلس ومدن أخرى، مؤكِّدة أن التجربة التاريخية مع الشعب الفلسطيني أثبتت أن سياسة الحرب والاحتلال وتوسيع الاستيطان لن تخضعه وليست الحلّ، وأن الطريق الوحيد الذي يقبل به الفلسطينيون هو الاعتراف بالدولة الفلسطينية في حدود الرابع من حزيران عام 1967 بحسب قرارات الشرعية الدولية وأي بديل آخر سيكون مكانه الطبيعي في مزبلة التاريخ.
وأضافت كتلة الجبهة والعربية للتغيير أن ما شهدته جنين مساء أمس بمثابة إرهاب دولة ضد شعب يتوق إلى الحرية والاستقلال ومن هذا المنطلق فإن إسرائيل وحدها من يتحمّل مسؤولية نزيف الدم وسقوط الشهداء والجرحى وسيأتي اليوم ويقف قادة الاحتلال أمام محكمة الجنايات الدولية في هاغ.
وعبر بيان الجبهة والعربية للتغيير عن استهجانه وعدم تفاجئه من الدعم الفوري للاجتياح من قبل المعارضة والائتلاف وأن الحل الوحيد والأمثل هو إنهاء الاحتلال وليس تعميقه.
جنين عصيّة على الكسر
وأصدر التجمّع الوطنيّ الديمقراطيّ بيانًا، فجر اليوم الإثنين، يدين فيه الحملة الدموية التي يقودها الاحتلال على مدينة جنين ومخيمها والتي تشمل استهدافا جويا وقصفا بالطائرات لبيوت الفلسطينيين والأهالي في جنين، في محاولة لكسر شوكة جنين ومخيمها.
وأضاف البيان أن هذه الحملة التي تقودها حكومة نتنياهو- بن غفير على جنين هي دليل دامغ على دموية هؤلاء الذين يستمرون في ارتكاب الجرائم والتصعيد الخطير الذي يقودونه في المنطقة، وهو ما يأتي تلبية لرغبات بن غفير الدموية لإرضاء جمهوره بالمزيد من الدم الفلسطيني والجرائم بحقه، وبمحاولة من نتنياهو للخروج من أزمته السياسية وتراجع شعبيته في ظل محاولات الانقلاب القضائي في البلاد على حساب المزيد من التصعيد والجرائم وإراقة الدم الفلسطيني.
وأنهى التجمّع بيانه مؤكدًا أن جنين عصيّة الكسر رغم جرائم الاحتلال ووحشيته وعنجهيته وهذا ما أكده التاريخ وسيؤكده الحاضر بالتأكيد، ورغم المجزرة الإسرائيلية المستمرة بحق جنين وأهلنا في الضفة الغربية.
المصدر: القدس العربي
الرابط المختصر https://insanonline.net/?p=142659