منتدى العلماء الصغار في خان يونس

زهرات فلسطينية.. وجوه بريئة لأطفال لا تخلو من ملامح الجد.. يتنقلون بين المعامل والمختبرات، بينما تحاول مجموعة أخرى تثبيت أحد مخترعاتها التي ابتكرتها أياديهم الصغيرة.. يمرحون ويلعبون ككل الأطفال في مثل أعمارهم، لكن شعارهم “وقت للعلم وآخر للمرح”.
زكريا، ويوسف، ومصطفى يواظبون بدافع من رغبة كاملة لديهم على قضاء جل وقتهم في نادي العلماء الصغار، فما أن ينتهي وقت الدوام المدرسي، أو تحل الإجازة إلا ويسرعون الخطى للمنتدى الذي بات جزءا من تكوينهم.. يقضون ساعات وساعات في تفكير وتدقيق حول فكرة ما تلح عليهم، فيقومون بتجريب عملها وتطبيقها على أرض الواقع.. يحاولون عشرات المرات، ويصرون على المحاولة حتى تنجح، أو على الأقل يتوصلون إلى تفسير ما يحدث أمامهم.
انقلاب في حياتي
يقول مصطفى شراب (14 عاما): “كثيرا ما كنت أتساءل: كيف يضئ نور غرفتي فقط بالضغط على زر بجانبي، وكثيرا ما تجولت في منزلنا لأسمع صوت الغسالة والثلاجة، وأتعجب كيف تدور وكيف تم تصنيعها؟ وقياسا على باقي الأشياء الصغيرة والكبيرة كان لا بد لي من المعرفة لأجل المعرفة”.
وتوجهت بأسئلتي للمدرسة غير أن منهجها لا يرتبط بالواقع الذي نراه ونعيشه، فهي كتب تصب في عقولنا ليس إلا، وظلت التساؤلات تلح عليَّ أكثر فأكثر حتى سمعت عن منتدى العلماء الصغار؛ حيث كان ما زال في بداياته، فالتحقت به ووجدت الإجابة على جميع استفساراتي، ليس هذا فحسب بل كلما طرأت على ذهني فكرة أو ابتكار ما لجأت للمنتدى لأشرح لهم ما يدور برأسي، وأطلب وزملائي توفير المواد التي تلزمنا لنجرب بأنفسنا، ونوصل الأسلاك الكهربائية، واللوحات الإلكترونية ونضع القطع الخشبية أو المعدنية حتى نرى الشكل الذي نريد ونتمكن من تشغيله كما عملنا في السفينة العائمة”.

ويضيف شراب: “لقد سافرت إلى الجزائر لتقديم عرض السفينة؛ حيث قمنا بتصميمها ومجموعة من زملائي، وحازت على إعجاب المتواجدين في المعرض، خاصة أن وفدنا الفلسطيني كان أعضاؤه الأصغر سنا ضمن المشاركين، وقد سبق لي أن قمت بعمل تليغراف وأحضرت أجراسا، وجعلت لكل حرف شفرات ووصلناها بين غرفتين: الجرس في غرفة والسماعة في غرفة ثانية، ومن ثم جاءت الرسالة”.
ويضيف: “أنا سعيد جدا بالمنتدى، فقد مكنني من عمل أشياء كثيرة ما كنت أستطيع عملها في المدرسة أو في أي مكان آخر، أربع سنوات هي فترة انضمامي للمنتدى، كانت من أروع الفترات وأكثرها نفعا”.
ويؤكد يوسف (15عاما) الذي يبدو كعالم صغير يحاول أن يشرح لنا: “الحقيقة أننا حين نلتقي -كل في مجموعته- نطرح عددا من الأفكار والأشياء التي نرغب في عملها وتصنيعها، ويناقش معنا المسئول الفكرة وكيف نريد أن نطبقها، وما هي الصعوبات، وهل هناك فعلا إمكانية لتصنيعها، ومن ثم ما فائدتها، وحين يتم تحديد الفكرة نضع قائمة بالأغراض التي نحن بحاجة إليها، ويبدأ دورنا العملي في تحقيق وإنجاح ما نريده، وقد تعلمنا كيف نفشل، وهذا قادنا للتعلم ومعرفة طريق النجاح”.
ويضيف يوسف وابتسامة ثقة تلوح في وجهه الصغير: “أشارك في المنتدى كمدرب بعد أن تلقيت التدريب الأساسي، فقد كنا نأتي بالإجازة لأني شعرت أني أستفيد أضعاف ما أستفيد في المدرسة، والجميل هنا أننا نقترح بعض الأشياء لنقوم بتصنيعها أو تطبيقها، ونناقش المسئولين، وإذا رأينا إمكانية التنفيذ نتولى نحن الأطفال القيام بها من الألف إلى الياء، ولنا استشارة المسئولين، وهو ما يعطينا دفعة قوية لنقول من وجهة نظرنا، وليست أفكار الغير؛ حيث ننفذ التجربة بأنفسنا، والمحاولات هنا متاحة حتى لو فشلنا عدة مرات، أذكر أننا قمنا بتصنيع مضخة، ولكم كانت المهمة شديدة الصعوبة، لكننا نجحنا في نهاية الأمر”.
أما زكريا الأغا (13 عاما) فيقول: “أحدث المنتدى انقلابا في حياتي وتشكيل شخصيتي، فهو يعني لي المستقبل والحلم. ويضيف: “قادتني خطواتي للمنتدى في بداية تأسيسه؛ حيث التحقت بدورات خاصة بتعليم مجموعة من الأطفال ومن ثم تأهيلهم ليصبحوا مدربين كل في المادة التي يشعر أنه يحبها ويمكنه أن يبدع فيها، وقد وقع عليَّ الاختيار؛ حيث قمت بتدريب مجموعات كبيرة من الأطفال في مجال العلوم من خلال التعاون مع المؤسسات المختلفة ومدارس الوكالة”.

ويضيف الأغا: “الجميل هنا أن أي مشروع بإمكاننا نحن الأطفال أن نكون العنصر الأساسي به، وهذا يزيد من صقل شخصيتنا ويعلمنا مهارات التشبيك مع الآخرين؛ فقد كنت المنسق الإداري لمشروع (العالم بين يديك) في المنتدى، والذي بدأت مرحلته الأولى في العام الماضي؛ فالأطفال يحبون المجيء هنا وقد قمت بتدريب مجموعات عدة من الأطفال في مجال العلوم، فكوني مدربا بهذه السن وفي موضوع أحبه شيء رائع، وقد جعلني هذا النشاط مفخرة لعائلتي”.
ويرى سعيد الآغا (17عاما) “أن تجربة المنتدى قد أكسبته الكثير من الثقة بالنفس، وإمكانية ملء أوقات الفراغ بالكثير من الفائدة، إلى جانب أهمية التجريب وضرورته كي يتمكن الطفل من تصديق وتفسير ما يقوم به بنفسه وفقا للتجارب العلمية على سبيل المثال”.
ويضيف: “تمكنت من إتقان مادة الإكسل، وأقوم حاليا بتدريبها لمجموعات الأطفال، وهذا مكنني من التعامل مع الآخرين وإدراك كيفية توصيل الفكرة لهم بأسهل الطرق، وهذه بحد ذاتها إضافة هامة في سبيل تطويرنا في المستقبل”.
منتدى للإبداع
“الجميع يهتف العلم نور.. ولكني لم أرَ في واقعنا تطبيقا عمليا ومباشرا لذلك، فكم من أجيال تخرجت دون أي أثر يذكر؛ نتيجة أسلوب التعليم بالتلقين المتبع في مدارسنا البعيد عن التطبيق”.. هكذا بدأ ناصر السميري المسئول في المنتدى كلامه، وأضاف:
“نعلم جميعا أسلوب التلقين الذي يتبع في المدارس والطريقة التقليدية في إعطاء الدروس، حتى العملية منها فلا إمكانات ولا مبدعون، وهذه كلها حجج ومبررات أكل عليها الدهر وشرب، لذا لم يرق لنا البقاء هكذا دون تغيير. ومن هنا التقيت بمجموعة أصدقاء لي، ورأينا ضرورة وجود بديل يمكن الأطفال من تطبيق ما يدرسونه من مواد علمية، والسعي لتقديم تفسير لكل ما يدور حولهم؛ ففي البداية كان عملنا على تشجيع التفكير في الرياضيات، وفوجئنا بأن الأطفال بحاجة لأكثر مما نتخيل”.
ويقول السميري: “هناك اتجاهان نعمل عليهما؛ الأول إيجاد وخلق ثقافة علمية، والثاني تشجيع التفكير الإبداعي لدى الأطفال من خلال ورش عمل لإيفاء هذا الغرض”.
ويوضح السميري قائلا: “لا بد من مرور أي طفل مشارك في ثلاث حلقات هي: قدرات فوق عادية، أصالة وقدرة خلق جديد، إصرار على أداء المهام، بالإضافة إلى هذا نقوم بتدريب 20 طفلا من سن 9 – إلى 15 سنة في عدة موضوعات، منها: الاتصال والتواصل، الكهرباء، مختبر بيولوجي، فيزياء وكيمياء، بالإضافة إلى برامج الإكسل والورد؛ بحيث يقوم هؤلاء الأطفال بتدريب 300 طفل من مدارس الوكالة ليصبحوا مدربين ومؤهلين فى ذات الأمر”.
ملتقى للأطفال
وحول أهداف المنتدى يقول السميري: “نهدف بالأساس توفير ملتقى مناسب للأطفال تتوفر فيه مكتبة حديثة ومختبر علوم متقدم وأجهزة متطورة لتمكينهم من العمل، وتطوير مهارات التفكير النقدي والإبداعي لديهم، بالإضافة لتدريب معلمي ومعلمات المدارس على اكتشاف وتعزيز قدرات الأطفال المتميزين. كما ونطمح للعمل على جلب الخبراء الفلسطينيين من الخارج للمساهمة في مشاريع المنتدى والمؤسسات التربوية، ونهدف في وقت لاحق لإصدار نشرة دورية تهتم بشئون التفكير، وطرق تشجيعه وتشجيع إسهامات الأطفال والمعلمات والمعلمين”.
طموح ومثابرة

وتقول فداء الأغا (32 عاما)، واحدة من المؤسسين للمنتدى: “كنت مميزة في طفولتي بشهادة الجميع، ولكني لم أشعر يوما بأن هناك ظروفا قد تساعدني على الإبداع العلمي؛ فجل وقتي محصور بين القراءة واكتشاف الأشياء من حولي، وفي المرحلة الجامعية بدأت أشعر أن إلحاح البحث والاكتشاف بدأ يخبو رويدا رويدا، فالتفكير السائد في التعليم مناهج ولا بد من تجاوزها والنجاح فيها للحصول على شهادة فقط، وبعدما تخرجت في تخصص الرياضيات في ليبيا عدت للوطن؛ حيث التقيت مجموعة من الأصدقاء المهتمين بتنمية إبداعات وقدرات الأطفال”.
وتضيف: “خلال 3-4 سنوات بدأ شعوري تجاه المنتدى يكبر؛ وهو ما جعلني أضع كل اهتمامي في المنتدى، ولم يثنني عدم وجود رواتب لمدة سنة ونصف؛ فقد كنا ننفق راتبنا على المنتدى بل وندفع من جيوبنا؛ لأننا نؤمن بأن المستقبل سيكون أفضل بهؤلاء الأطفال وبتحقيقهم ما لم ننجح في طفولتنا في تحقيقه”.
إنجازات ومشاركات
وعن الإنجازات التي حققها المنتدى يقول السميري: “لقد تمكنا من تأسيس خمسة مراكز لتشجيع التفكير في خمس مدارس تابعة لوكالة الغوث للاجئين في كل من مدينتي رفح وخان يونس 1999. وقمنا بتنفيذ مشروع “العالم بين يديك” الذي فاز ضمن 3 مشاريع مقدمة من محافظات قطاع غزة في المسابقة التي نظمتها منظمة الأمم المتحدة للأمومة والطفولة “UNICEF” لمشروع (فتيان وفتيات من أجل التغيير)؛ حيث تم تنفيذ البرنامج بإدارة ذاتية من مجموعة الأطفال المكونة من 17 طفلاً، والتي قاموا من خلالها بالتدرب على استعمال الإنترنت، ومن ثم تدريب مجموعات أخرى من الأطفال.
كذلك عملنا على تنسيق وتنفيذ مسابقة “المخترع الصغير” لمراكز تشجيع التفكير التابعة للمنتدى في مدارس المرحلة المتوسطة 2000-2001؛ حيث فاز بالمركز الأول المصنع المحوسب المقدم من طلاب الصف السابع والثامن بمركز مدرسة ذكور رفح الإعدادية “ج” للاجئين، وهو أحد المشاريع المقدمة من مركز المدرسة، أما المشاريع الأخرى فهي مشروع “حدود بلا حرس حدود”، حماية البيئة وخدمة البلديات، وشارك مركز ذكور خان يونس الإعدادية للاجئين بالمشاريع: السفينة الذكية، مجموعة ذرات في ذرة واحدة، برهان ثلاث نظريات بطريقة جديدة، الظواهر الجغرافية. وقد فاز مشروع السفينة الذكية على مستوى مركز المدرسة، أما فتيات مركز مدرسة بنات رفح الإعدادية “أ ” فشاركن في المصعد الآلي وجهاز تحلية مياه البحر، وقد فاز مشروع تحلية مياه البحر على مستوى المدرسة.

وقمنا بتنفيذ مشروع “بدنا نعيش” للأطفال من سن 7-15 عاما بمشاركة 207 أطفال، والذي شمل ورشات في مواضيع متعددة: ورشة كتابة إبداعية، ورشة رسم، ورشة الدبكة، ورشة علوم مسلية، ورشة رياضيات مسلية، ورشة ألعاب تفكير، ورشة الألعاب الشعبية في 2001.
وتم استكمال مشروع “بدنا نعيش 2” للأطفال من سن 7-12 سنة والذي تضمن برنامجه: ورشة رسم، ورشة العلوم والرياضيات المسلية، ورشة ألعاب التفكير والألعاب الشعبية، وشارك بالمشروع 50 طفلا. بالإضافة إلى تدريب 9 معلمين للعمل في 4 مراكز تشجيع تفكير في ثلاث مدارس برفح، حيث استمرت الورش لمدة شهرين في 2002.
ويقول حاتم أبو شمالة (28 عاما)، مسئول العلاقات العامة للمنتدى: “نحاول جاهدين عقد شراكات مع منتديات مشابهة في دول عربية أو أجنبية لتبادل الخبرات بين الطرفين. ويضيف أبو شمالة: “من المخطط الانتقال لمقر جديد يحتوي على ما نطمح حقا، ومن المقرر إنشاء قبة فلكية (زجاجية) بحيث يمكن للأطفال رؤية الأشياء بأبعادها الثلاثة، وتحتوي على ما يشبه المجرات والكون عموما بحيث يسهل تطبيق دروسهم عمليا من خلالها، وهذه ستكون صرحا علميا نتمنى تحقيقه، إلا أن ذلك يتوقف على التمويل، كما أن هناك مشروع الحديقة العلمية؛ بحيث تتوفر كافة أنواع النباتات والتي سنعمل على توفير بيئة ملائمة وخاصة لكل منها”.
صعوبات ومعوقات
وحول المعوقات التي يواجهها المسئولون في المنتدى: “التمويل يعتبر المشكلة الأساسية، فعمل المنتدى لا يعتبر أولوية للممولين؛ بل يعتبرونه ترفيها، وهذه الفكرة خاطئة تماما، ومن ناحية أخرى لا يستوعب الممولون الأرقام المكلفة لتجهيز معمل مثلا أو شراء جهاز، فهم يعتبرونه باهظ الثمن جدا.
ويرى السميري أن الروتين وعدم إدراك أهمية الوقت من قبل الأطراف الأخرى التي من الممكن التنسيق معها هو أمر قاتل، فقد يأتي الرد على تعاون بنشاط أو برنامج مشترك بعد عدة أشهر، وتشكل التراكمات الاجتماعية والعادات والتقاليد معيقا للفتيات المشاركات كثيرا، ولكنا نحاول تجاوزها، ويمثل الاحتلال الإسرائيلي المعيق الأول في وجه أي تطور علمي في الأراضي المحتلة بالحواجز التي يقيمها وتفننه في الحصار، وفرض القيود التي تحد من حرية الحركة والتواصل مع نظرائنا في العالم، وهذا يعد قمعا لحرية العلم والتطور.